يشكل المبدع المصرى محفوظ عبد الرحمن نموذجا للمثقف الوطنى الذى يحظى بإعجاب وتقدير النخب ورجل الشارع معا على امتداد العالم العربى فيما تبتهل القلوب، وترتفع الدعوات بأن يتجاوز "شاعر الدراما التلفزيونية التاريخية" محنته الصحية ويعود للإبداع برؤيته القومية النبيلة وانحيازاته الأصيلة للقيم الجمالية والأخلاقية.
وكانت الفنانة الكبيرة سميرة عبد العزيز دعت كل محبى زوجها الكاتب والمبدع محفوظ عبد الرحمن بالدعاء له بعد تعرضه لأزمة صحية مؤخرا فيما زاره وزير الثقافة حلمى النمنم للاطمئنان عليه بالمستشفى الذى يتلقى به العلاج وتفيد أنباء بحدوث تحسن ملحوظ فى حالته الصحية.
ومحفوظ عبد الرحمن الذى حصل على "جائزة النيل" فى مجال الفنون وهى أعلى جائزة ثقافية مصرية فى عام 2013 وتخرج فى قسم التاريخ بكلية الآداب فى جامعة القاهرة عام 1960 تنوعت وتعددت إبداعاته ما بين المسرح والسينما والإذاعة والتلفزيون فيما عمل فى عدة إصدارات صحفية من بينها إصدارات لدار الهلال قبل أن يتجه إلى العمل فى وزارة الثقافة اعتبارا من العام 1963 ولم يخل اختياره من دلالة عندما رحب بالعمل فى قسم الوثائق التاريخية.
وكذلك لم يخل أول سيناريو لمسلسل تلفزيونى بقلمه من دلالة عندما اختار فى مطلع سبعينيات القرن العشرين قصة "العودة من المنفى" التى يتناول فيها القاص والمبدع الراحل أبو المعاطى أبو النجا شخصية المناضل عبد الله النديم.
وصاحب أفلام (ناصر 56) والعندليب"او"حليم" و"القادسية" وعدة أفلام تسجيلية وقصيرة رأى أن "مخاطبة الآخر قضية مهمة جدا وأن السينما من أهم العناصر فى هذا الخطاب" فيما كانت الكاتبة والناقدة سميرة أبو طالب قد أصدرت كتابا عن السيرة الذاتية لهذا المثقف المصرى الكبير بعنوان:"محفوظ عبد الرحمن..مقاطع من سيرة ذاتية".
وترى سميرة أبو طالب أن محفوظ عبد الرحمن نموذج "للمثقف المقاوم للمخاطر التى تحيط بالكيان العربى سواء على مستوى البشر أو الحجر" موضحة أنه "صاحب الكلمة الثائرة والرافضة للأوضاع العربية المترهلة" فيما يرتكز على منظومة قيم ثقافية وطنية وإنسانية تسطع فى قلبها قيمة الالتزام.
وتتجلى قيمه الوطنية والإنسانية فى كتاباته للمسرح مثل :"غريب لبنت السلطان" و"حفلة على الخازوق" و"الحامى والحرامي" و"كوكب الفيران" و"الفخ" و"ما أجملنا" و"بلقيس" فيما عرف أيضا بروحه الإيجابية فى المجال الثقافى العام وهو مؤسس ورئيس مجلس إدارة "جمعية مؤلفى الدراما" وصاحب دعوة مستمرة تؤكد أهمية التواصل بين الأجيال" كما انه "الباحث الدؤوب بين الوثائق التاريخية والكتب".
ولمحفوظ عبد الرحمن الذى ولد فى الحادى عشر من يونيو عام 1941 إبداعات فى القصة القصيرة شكلت بدايات مسيرته الإبداعية المديدة كما أنه صاحب طروحات نقدية فى الأدب عرفت طريقها للنشر فى العديد من الصحف والمجلات الثقافية فضلا عن عمله كسكرتير تحرير لمجلات "السينما" و"المسرح والسينما " و"الفنون".
والطريف بقدر ماهو دال على عشقه للصحافة انه باح فى ندوة بختام معرض القاهرة الدولى للكتاب فى شهر فبراير عام 2015 بأن حلم حياته الذى لم يتحقق تماما خلال مسيرته الابداعية كان العمل بالصحافة كمحترف والانضمام لنقابة الصحفيين التى لم يحصل على عضويتها لعدم حصوله وقتها على عضوية "الاتحاد الاشتراكي" وهو التنظيم السياسى الوحيد فى مصر الستينيات "ومن ثم قرر العمل فى قسم الوثائق التاريخية بوزارة الثقافة".
ويتفق النقاد على أن محفوظ عبد الرحمن ينطلق فى إبداعاته المتنوعة والمتعددة من "روح المحبة ورصد الأثر الباقى الذى يمكث فى الأرض وينفع الناس" مع التزام أصيل بالحفاظ على مصداقيته ككاتب مصرى ينتمى لأرض الكنانة والأمة العربية.
والمجموعة القصصية الأولى للمبدع المصرى محفوظ عبد الرحمن صدرت عام 1967 بعنوان :"البحث عن المجهول" بينما جاءت مجموعته القصصية الثانية عام 1984 بعنوان :"أربعة فصول شتاء" وقبل ذلك كانت روايته الأولى "اليوم الثامن" قد نشرت عام 1972 ونشرت روايته الثانية "نداء المعصومة" العام 2000 فى جريدة الجمهورية.
وبقدر ما يثير تعرض أى مبدع لمحنة صحية لأسف عميق فى النفوس فإن الاستجابة الإبداعية لألم المحنة قد تثير الإعجاب وتنطوى على مدد أمل لكل المبدعين مثل محفوظ عبد الرحمن "شاعر الدراما التلفزيونية" وصاحب العمل الدرامى التاريخى :"الكتابة على لحم يحترق" والذى قال ذات يوم :"الكاتب ينبغى أن يكتب مثلما يغنى أو يرقص أو يطير" !.
وشأنه شأن أى مبدع كبير فإن لمحفوظ عبد الرحمن - أطال الله فى عمره ومتعه بالصحة - تأملات فى قضايا الحياة والموت فقال فى سياق مقابلة صحفية منذ نحو عامين:" عشت أكثر مما أرغب وانتظر الموت".
بل وذهب هذا المبدع النبيل إلى أن "أجمل لحظة فى الحياة هى الموت" معتبرا أن "التفكير فى الموت وانتظاره" لا يعنى أبدا أنه متشائم فقضايا الموت حاضرة فى الوجود الإبداعى لكتاب كبار فى الغرب أيضا.
وكان محفوظ عبد الرحمن ذكر أنه طلب من أسرته عدم إقامة سرادق عزاء له لأنه لا يود أن تكون لحظة وداعه "مسألة تقليدية" أو أن يتسبب فى إجهاد الناس لكن أسرته رفضت هذا الطلب تماما.
وأضاف:" الشيء المدهش إننى رغم أن فكرة الموت لا تخيفنى لكننى أخاف أن أفقد الناس وأصعب شيء فى حياتى حينما أتلقى خبر وفاة أحد المقربين لي" معيدا للأذهان أن تلقيه خبر وفاة الكاتب أسامة أنور عكاشة الذى قضى فى الثامن والعشرين من مايو عام 2010 وهو من أصدقائه المقربين كان "أمرا مروعا" بالنسبة له.
والألم قد يكون أحد أهم محفزات الإبداع. .وعلى سبيل المثال فها هى الكاتبة الروائية البريطانية الشهيرة هيلارى مانتل البالغة من العمر نحو 65 سنة تتخذ من الإبداع ترياقا "لحياة من الألم" جراء مشكلات صحية لا تنتهي.
وإذ تتضرع القلوب الآن للسماء من أجل الشفاء العاجل لمحفوظ عبد الرحمن فان الأمل يراود كل محبيه فى أن تكون تجربته مع الألم زادا لمزيد من الإبداع فى حياة مديدة لشاعر الدراما التاريخية التلفزيونية.
وفيما باتت الدراما التاريخية "عنصرا أساسيا فى الوجبة الإبداعية التلفزيونية" يبقى محفوظ عبد الرحمن فارس الدراما التاريخية على الشاشة الصغيرة بأعمال خالدة فى الوجدان المصرى والعربى ككل شملت أكثر من 20 مسلسلا تلفزيونيا مثل: "سليمان الحلبي" و"بوابة الحلواني" و"عنترة" و"ليلة سقوط غرناطة" و"ليلة مصرع المتنبي" و"السندباد" و"اهل الهوى" ناهيك عن مسلسله الشهير"أم كلثوم".
وإذا كان محفوظ عبد الرحمن قد وصف "كوكب الشرق" أو كلثوم بأنها "وحدت الأمة العربية فى السماع" فإن هذا الكاتب الكبير برؤيته القومية وصياغته التلفزيونية التى تحلق لآفاق الشعر هو أحد أهم من "وحدوا الأمة العربية فى المشاهدة الدرامية التلفزيونية" فيما أعرب عن اعتقاده بأن "الدراما العربية متكاملة" وتمنى أن تكون هذه الدراما التلفزيونية العربية "كتلة واحدة فى عصر العولمة".
و"الدراما التاريخية" عند محفوظ عبد الرحمن "مزيج من وقائع تاريخية ووقائع خيالية" فيما أوضح فى مقابلة صحفية :"حتى المعلومات التاريخية أنت تعيد تخيلها وتكتبها بأسلوب جديد" كما يلفت نقاد إلى أنه يتناول التاريخ برؤية ناقدة وعينه على المستقبل.
ولا ريب أن "شاعر الدراما التاريخية التلفزيونية" كان لرأيه كل الأهمية فى سياق الجدل الذى شهدته الساحة الثقافية المصرية فى شهر رمضان الماضى حول الدراما التاريخية فيما تتقرب رؤيته من الرأى القائل بأن "صانع الدراما التاريخية لا ينقل أحداثا ووقائع" فهو ليس "عملا توثيقيا" كما يذهب أصحاب هذا الرأى إلى أن "العمل الدرامى له معاييره الفنية والجمالية" ولا يجوز أن " نخلط بين التاريخ من حيث هو علم اجتماعى والدراما بصفتها عملا فنيا".
وثمة اتفاق عام بين جمهرة المثقفين المصريين على أن الدراما التلفزيونية أضحت من أهم العوامل التى تشكل "العروبة الثقافية الشعبية" فيما يرى البعض أن الدور الذى كانت السينما المصرية تنهض به على هذا المضمار قد انتقل للدراما التلفزيونية التى يشاهدها العرب من المحيط إلى الخليج ومن ثم فهى لابد وأن تقوم "بأدوار ثقافية ناعمة" لخدمة الأمة العربية والتفاعل مع هموم رجل الشارع فى العالم العربى ككل.
وإذا كانت الدراما هى التى تنهض بدور كبير فى تشكيل الوجدان المصرى والعربى فمن نافلة القول إن محفوظ عبد الرحمن نهض بدور على هذا المضمار، سيتوقف أمامه التاريخ الثقافى طويلا بالإجلال والتحية.
ولئن كان المبدع محفوظ عبد الرحمن قد قال عن زوجته الفنانة النبيلة سميرة عبد العزيز :" أتنفس الحياة معها طوال الوقت" فيما وصفته هى فى فيلم تسجيلى قصير بأنه "أجمل هدية أهداها الله لها" فنحن نتمنى عمرا مديدا وسعيدا لشاعر الدراما التلفزيونية التاريخية.
أيها المبدع المصري:عد لإبداعك وعش سنوات مديدة بين مدارات الحق والخير والجمال ولتحلق بالمحبة والأمل دوما فى الأفق العربى وتبدع للإنسان العربى الذى عرفك قبسا من روح مصر الخالدة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة