"ما محبة إلا بعد عداوة" ، هكذا يوثق المثل الشعبى لتحول مشاعرنا تجاه شخص ما .. بداية معرفتى به كانت أولى رواياته أيام الإنسان السبعة، لا أنكر إعجابى بها ولكن سرعان ما تحول هذا الإعجاب إلى غضب عليه، عندما بدأت قراءة روايته قدر الغرف المقبضة، فكانت حقا اسما على مسمى مقبضة، ومؤلمة لكنها بديعة.
كيف يخرج الإبداع من رحم الألم ، تلك هى قدر الغرف المقبضة. اتهمته بالكآبة وقذفته بالسوداوية ولكن سرعان ما تهاوت كل تلك الاتهامات أمام عذوبة النص رغم ألمه ، أمام تفرد اختيار الكلمة، رغم انقباض النفس أحيانا تعاطفا مع ذلك المعذب بحوائط غرفه المقبضة ، كانت نموذجا مختلفا ، سياقا جديدا ، رواية بطلها المكان ليس مكانا واحدا ولكنها جولة سياحية من الوجه البحرى وصولا إلى الأسكندرية ثم العودة إلى القاهرة، فالغياب خلف قضبان السجن ثم عبور المتوسط إلى ألمانيا.
صحيح أن رواية "قدر الغرف المقبضة" لم تكن بطاقة التعارف بينى وبين أدب عبد الحكيم قاسم، سبقها أيام الإنسان السبعة لكنها كانت بوابة العبور إلى أدبه وعالمه وذاته أيضا.
هل أقصد أن أكون بليغا..؟ نعم وأحب أن أجيد ذلك، أن أحط ما بداخلى فى نسق، وأن يكون النسق جميلا.
بتلك الكلمات لخص الكاتب الراحل عبد الحكيم قاسم أسلوبه فى الكتابة، وشغفه بالكلمة، والمفردات المختارة بعناية لتعبر عما يجول بخاطره. قدرة "قاسم" على الحكى باستفاضة فى التصوير واختصار فى الكلمة قدرة قلما وجدت عند كتاب آخرين .
يبدع "قاسم" فى اختيار النسق الجميل للنص ليعبر تماما عن أفكاره ومشاعره باختصار شديد فجعل نصوصه أقرب إلى الشعر فى عذوبة مفرداتها وجمال صورها واختصارها الشديد ، فتميز "قاسم" فى كتابة الرواية القصيرة والقصص القصيرة إلى جانب بعض الروايات القليلة الطويلة والتى أيضا لم تزد عدد صفحاتها عن مائتى صفحة إلا قليلا ، لم يكن ذلك لقلة فى الموهبة أو ندرة فى التفاصيل ، ولكنها قدرة قاسم على التصوير والوصف الوافى فى إيجاز يضيف إلى المعنى جمالا ولا يضيف إلى السياق خللا أو ارتباكا .
عبد الحكيم قاسم ولد فى قرية البندرة بمحافظة الدقهلية عام 1935 تلك القرية التى جعلها محل أحداث روايته الأولى أيام الإنسان السبعة ، نشأ فى بيت أبيه لأم ترتيبها الثالث فى زوجات الأب ، كان طفلا مميزا فى صغره كما قال "قاسم" عن نفسه: كنت طفلا عليلا تنفينى علتى عن صحبة أقرانى من العيال ، وتلزمنى كُن أبى، ومجالس أصدقائه فى الأصائل الرقيقة والأماسى الندية فى ردهة دوارنا.
هكذا نشأ طفلا مميزا بالضعف والعلة ، تلك النشأة التى أوحت إليه بروايته الأولى أيام الإنسان السبعة عن حلقات الذكر وشغف أهل الوجه البحرى وتعلقهم بالسيد البدوى .
كانت حياة عبد الحكيم قاسم رحلة مستمرة ، دائم التنقل أقرب إلى الرحالة من طفولته حتى وفاته ، وكانت أبرز محطات التنقل سفره المفاجئ إلى ألمانيا عام 1974 والتى ظل بها حتى عام 1985، ولأن سفره كان مفاجئا وقرار البقاء هناك أيضا كان مثله. حاول قاسم فى غربته أن يجيب كثيرا عن هذا التساؤل الذى باغته من الجميع كل أصدقائه تسائلوا لماذا سافرت وما الهدف؟ فكتب رسالة إلى شقيقه عبد المنعم قال فيها: أن هذا السؤال من أعقد الأسئلة التى واجهتنى إنه نديمى وسامرى.
ثم كتب فى رسالة أخرى إلى صديقه حسنى عبد الفضيل محاولا الإجابة على السؤال ذاته: رحلتى إلى أوربا تنسجم مع منطق حياتى كلها.. طفل فى البندرة، تلميذ فى ميت غمر، ثانوى فى طنطا، طالب جامعى فى الإسكندرية، كاتب فى القاهرة، أكاديمى فى برلين.
فكان الترحال ملمحا مميزا فى طفولته وشبابه لم يستطع التخلى عنه بقية حياته.
تتضح الكثير من شخصية عبد الحكيم قاسم فى خطاباته إلى أصدقائه من برلين التى جمعها وحققها محمد شعير فى كتابه "كتابات نوبة الحراسة" شخصية رقيقة محب لأصدقائه، مؤمن بموهبتهم الأدبية أشد الإيمان حتى أنه تمنى أن يكون أول من يموت منهم حتى لا يبقى وحيدا بعدهم، وحتى لا يعانى فراق أحدهم بعد أن اختبر وفاة الأديب الراحل يحيى الطاهر عبد الله. جاءه الخبر مع جمال الغيطانى فوصف مشاعره وقتها فى إحدى خطاباته قائلا: بكيت كاتبا بسيطا صادقا كان الموت يتربص به من سطر إلى سطر حتى صرعه .
كان يرى عبد الحكيم قاسم أن جيل الستينات هم حقيقة الأدب المصرى ، رغم هذه الكآبة المخيمة عليهم وتلك المسافة الصامتة التى تفصلهم عن جمهورهم هى الحقيقة الأليمة البارزة حسب وصفه.
جيل أدباء الستينات الذى انشغل بهم قاسم مادام حيا بحماسه الشديد لكتاباتهم ، وإيمانه بقدراتهم الأدبية الكبيرة ، حتى أنه جعلهم موضوع الدكتوراة التى عمل عليها أثناء إقامته فى برلين لكنه لم يتمكن من إنهائها.
هذا الجيل الذى انشغل به قاسم طويلا ومعاناته فترة حكم السادات وهجرة الكثير من أبنائه فى عهده كانت محلا للنقاش فى خطابات قاسم إلى أصدقائه فكتب إلى محمد روميش محاولا الإجابة عن سر تلك الهجرة قائلا: أنا أفسر الخروج الشامل للمثقفين المصريين بأنه عجز فكرى عن التعامل مع هذا النظام، لا خوف من السجن أو الإرهاب وكثير منا احتملوا السجون فى ظل عبد الناصر.
ويضيف فى تحليله: السادات القادم من منطقة أسخط الأبناء على أبيهم عبد الناصر وهو يمسكهم بسخطهم هذا حتى يخرسهم فيصمتوا أو يخرجوا من البلد، ذلك هو الإشكال الذهنى الذى نحن فيه.
أوجز "قاسم" أزمة كثير من أدباء جيل الستينات الذين هاجروا بعد تولى السادات الحكم، إيمانهم الشديد بتجربة عبد الناصر ثم إنكسار هزيمة يونيو، وما ترتب عليها من سخط داخل النفوس على عبد الناصر رغم الإيمان بتجربته وأحلامه، تناقض داخلى استغله السادات فى الانقضاض على التجربة الناصرية التى أدعى فى بداية عهده أنه يسير على دربه، ولكن الحقيقة كانت العكس تماما حتى قيل وقتها تندرا على سياساته "أن السادات يسير على خطى عبد الناصر بممحاة".
قد يعتقد البعض أن "قاسم" كتب ذلك إنصافا للسادات وأن المشكلة هى فشل الأدباء فى استيعابه أو تفهم المرحلة الجديدة، ولكن على العكس تماما فعبد الحكيم قاسم يرى أن السادات "شخص نصف موهوب ، نصف متهور، ومفلس." حسبما وصفه فى إحدى خطاباته.
محاولة عبد الحكيم قاسم لنيل الدكتوراه وعدم نجاحه فى استكمالها ربما أثار فى نفسه الألم المشترك بين أغلب كُتاب العالم العربى وهى عدم القدرة فى وطننا على التفرغ للكتابة والأدب بما يعنى احتراف الكتابة تلك المسألة التى ناقشها عبد الحكيم قاسم مع صديقه محمد روميش قائلا: ما هو احتراف الكتابة؟ هل هو العيش من الكتابة إننى أكتب منذ عشرين عاما وأنشر، وجميع ما كسبته من كتاباتى لا يطعم أولادى شهرا.
حقيقة يدركها كثير من الكتاب أن الاشتغال بالكتابة فقط لا يوفر الحد الأدنى من تكاليف المعيشة لذا فدائما مُطالب الكاتب أن يضاعف جهده طوال حياته ليوفق بين عمل يكتسب منه ويعيش منه وبين الكتابة، بينما كا مطلوبا من قاسم أن يعمل ويكتب ويشتغل على نيل الدكتوراه فكان طبيعيا أن يضحى بأحدهما فكانت الدكتوراه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة