فى واحدة من الدراسات المهمة والشيقة التى نشرت فى العديد من الدوريات العربية والصحف العربية بشكل عام، والسعودية بشكل خاص، الدراسة التى حملت عنوان «التعليم العالى سر تفوق الولايات المتحدة الأمريكية» للكاتب والباحث العربى أحمد بن محمد العيسى، وهو الباحث الذى وضع عدة دراسات عن أسباب التقدم الأمريكى فى مجال التعليم، حيث يرى الباحث أنه لا جدال فى أن أمريكا متفوقة فى هذا العصر، ليس فى المجال السياسى والاقتصادى والعسكرى فحسب، بل أيضًا على المستوى العلمى والتقنى والثقافى، فالولايات المتحدة بقيت القوة الوحيدة على الساحة السياسية والعسكرية الدولية بعد سقوط الاتحاد السوفيتى، أما فى المجال الاقتصادى، فعلى الرغم من وجود منافسين لها، خاصة الاتحاد الأوروبى واليابان، فإنها لا تزال تتحكم فى مفاصل الاقتصاد الدولى، وتستحوذ لوحدها على أكثر من %52 من الناتج العالمى، أما فى المجالات العلمية والتقنية والثقافية، فالعلماء الأمريكيون هم الأكثر استحواذًا على جائزة نوبل فى الخمسين عامًا الماضية، ففى عام 2004 حصل 7 علماء أمريكيين على جائزة نوبل من 11 عالمًا وناشطًا، فجوائز الطب والكيمياء والفيزياء يكاد يسيطر عليها الأمريكيون بلا منازع، والشركات الأمريكية فى تقنية الحاسب والمعلومات، مثل مايكروسوفت وإنتل وسيمسكو، تسيطر على أكثر من %90 من سوق تقنيات الحاسب والمعلومات فى العالم بأسره، بل وقبل ذلك لم يكن اختراع الحاسب الآلى وشبكة الإنترنت والأقمار الصناعية والتقنيات الدقيقة سوى من مبتكرات العقول الأمريكية، ثم تلقفتها الدول الأخرى بالاستهلاك أو التصنيع والانتشار.
أما على المستوى الثقافى، فالولايات المتحدة تستحوذ على النصيب الأكبر من صناعة الكتاب والنشر وإنتاج الأفلام السينمائية والتليفزيونية، ومن صناعة المعلومات بشكل عام.
ولكن ما سر هذا التفوق الأمريكى، وكيف أصبحت الولايات المتحدة القوة العسكرية والاقتصادية الأولى فى العالم؟، هل المسألة تكمن فى الثروات التى تحتضنها أرض أمريكا المترامية الأطراف، أم أن المصادفة التاريخية جعلت أوروبا واليابان تتأخر اقتصاديًا وعسكريًا بعد الحربين العالميتين، وأن تكون ميدانًا للحرب الباردة التى أرهقت دولها بالتزامات وتحفزات غير عادية؟، لماذا إذن لم تظهر قوة أخرى فى آسيا أو أمريكا الجنوبية أو أفريقيا لمقاومة القوة الأمريكية الناهضة؟، ولماذا سقط الاتحاد السوفيتى المنافس الرئيسى للولايات المتحدة بعد حوالى خمسين عامًا من نهاية الحرب العالمية الثانية، ليترك الساحة مفتوحة أمام الهيمنة الأمريكية على العالم؟
أسئلة قد تبدو مكررة أو ساذجة للذين يهتمون بالتاريخ والحضارة والتقدم الإنسانى، لكنها أسئلة جوهرية يجب التأمل فيها ومناقشتها لمعرفة أسرار التقدم والنهضة بدلاً من أن نكرر ندب حظنا، أو أن نتعلق بالنظرية التآمرية فى التاريخ، أو أن نعتقد- كما يرى بعض المتعصبين- أن أمريكا لا تمتلك حضارة إنسانية، وإنما هى حضارة الغاب والقوة الاقتصادية والعسكرية.
حقيقة، إن عوامل النهضة والتقدم والازدهار العلمى والحضارى لا يمكن حصرها فى عامل واحد أو عاملين اثنين أو ثلاثة، بل هى مجموعة عوامل تتضافر جميعها لتحقيق النمو والنهضة والازدهار، ولكن جميع العوامل لا يمكن حصرها فى مقال مختصر فى جريدة يومية، بل هى تحتاج إلى دراسات تاريخية عميقة، تتوفر فيها الموضوعية والمنهج العلمى والرغبة فى المعرفة والاستفادة. لقد نشأت الولايات المتحدة كدولة كما هو معروف بعد صراع مرير بين المهاجرين من أوروبا والسكان الأصليين، وتأسست فى دولة واحدة لها دستور واحد، واستقلت عن بريطانيا رسميًا عام 1776، ثم خاضت صراعات داخلية، من أهمها الحرب الأهلية التى نشأت بين ولايات الشمال وولايات الجنوب. ولكن النهضة الحقيقية جاءت بعد ذلك نتيجة الاهتمام بالتعليم منذ مراحل مبكرة، ولم يكن الاهتمام فقط بالتعليم الأساسى، بل بشكل خاص بالتعليم العالى، الذى هو مادة هذا المقال والمقالات المقبلة، فقد نشأت الكليات والمعاهد العليا منذ تاريخ مبكر لم تشهدها دولة أخرى بمثل هذا الاهتمام، فجامعة هارفارد، على سبيل المثال، أول جامعة أمريكية أنشئت عام 1636، وجامعة ييل أنشئت عام 1701، وكلية دارتموث 1769، وجميع هذه الكليات أنشئت قبل الاستقلال، وكانت كليات أهلية أنشئت بمبادرات من أفراد ومؤسسات خيرية، والتى أصبحت سمة حضارية بارزة فى مسيرة التعليم العالى فى الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من الاهتمام بالتعليم حتى يومنا هذا، فإن الولايات المتحدة لا تذكر فى الغالب بأنها متفوقة فى التعليم العام والأساسى، مع أنها تملك نظامًا تعليميًا ممتازًا، ومدارس يتوفر فيها جميع العناصر الضرورية لبناء الإنسان وتنشئته علميًا وثقافيًا ومهنيًا، ولكن نظام التعليم الأساسى يختلف من ولاية إلى ولاية، ومن منطقة تعليمية إلى أخرى، بحسب غنى أو فقر المنطقة والولاية، كما أن المناهج والمعلمين يختلفون من حيث كفاءتهم، والمميزات التى يحصل عليها المعلمون تختلف باختلاف الإمكانات الاقتصادية فى الولاية أو المنطقة التعليمية أيضًا. وللحديث بقيه إن شاء الله.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة