أكثر ما شد انتباهى أمام قلعة قايتباى بالإسكندرية، مجموعة من الأطفال يلعبون الكرة على الشاطئ فى مياه البحر، تحت أضواء كشافات قلعة قايتباى، وقد تجاوزت الساعة الحادية عشرة مساء، وأهاليهم فى منتهى السعادة وهم يتابعون لهوهم ومرحهم.. إنه نفس البحر الذى تغرق فيه مراكب الموت، ويبتلع فى أعماقه أطفالا فى نفس سنهم، وسبحان الله،قد يكون البحر صانعا للبهجة أو مقبرة للموت.. لنا وطن نعيش فيه ويحمينا.
والإسكندرية أيضا استعادت عافيتها هذا الصيف، وعاد الازدحام لشواطئها بالليل قبل النهار، وتلألأت على الكورنيش المقاهى الشهيرة، وجلسات السمر والفرحة حتى الفجر.. الحمد لله الذى أعاد البسمة لشعب يحب الحياة، فلم يكن أحد يتصور أن مصر، يمكن أن تعود من جديد قبل عشرات السنين، فقد كانت المؤامرة كبيرة، ولولا هبة الشعب وفى ظهره الجيش، كان من الصعب جدا أن تعود الإسكندرية، وربما كان أطفالها يبحثون عن مكان فى أحد مراكب الموت.
كان مقررا أن يهب الجحيم العربى المعروف بالربيع، على مصر قبل خمس سنوات، ولكنه تأخر حتى يتم تهيئة مسارح الدول المجاورة المستهدفة، وعندما جاء الأشرار إلى مصر بعد 2011، ابتكروا خلطة شيطانية مأخوذة من تجارب الدول التى تم إفشالها وهدمها.. أخذوا من الحروب الدينية فى أوروبا، خبرة تأجيج الصراع الدينى الذى أشعل حربا أهلية امتدت ثلاثين عاما وحرقت نصف أوروبا وأفنت ثلث شعوبها، فلماذا لا يشعلون فى مصر مثل تلك الحرب؟.. وتولى المعزول المتآمر تنفيذ المخطط بإعلان الجهاد فى سوريا، وإضفاء صبغة دينية على الحرب الدائرة هناك.
ولأن مصر لها جيش قوى، فلماذا لا يتم تشتيت انتباهه وبعثرة قوته، فى حروب الشوارع والميادين، ولماذا لا يطلقون فى وجهه الهتافات المعادية والشعارات المسيئة؟.. وجاء الأشرار إلى مصر بخلاصة تجارب الخراب والدمار الذى حدث فى ثورات أوروبا سنة 1989، وترجموا نفس الشعارات والعبارات، وتناقلوها فى وسائل الاعلام ومظاهرات الميادين، وادخلوا على الأجواء السلمية التى تميزت بها مصر، ممارسات العنف والقتل والخرطوش، وخطف النشطاء وقتلهم، لتوسيع دوائر الثأر والانتقام.
وأفشلت مصر مخططا رهيبا لتفكيك وإعادة تقسيم المنطقة، وتحويل الدول إلى دويلات، على غرار ما حدث فى أوروبا، ولا ننسى أن مؤامرة التقسيم كان تستهدف مصر، وهيأ المعزول لها المسرح، بإلغاء النص الوارد فى دستور 1971 الذى يحظر التنازل عن الأراضى، وأجرى تعديلا قانونيا يتيح له إدخال تعديلات على الحدود، وتصدى وزير الدفاع الفريق أول عبدالفتاح السيسى لذلك سنة 2013، بإصداره قرارا يحظر أى نوع من التصرفات فى سيناء، وأبطل مفعول هجوم الفلسطينيين، على شراء الأراضى بأثمان باهظة، فى سيناء حتى الإسماعيلية، حتى لا يحدث مهنا نفس ما فعله اليهود فيهم سنة 1948.
والإرهابيون الذين يلفظون أنفاسهم الأخيرة فى سيناء، هم الذين جاءوا بالغزو العسكرى الأمريكى للمنطقة، وكانت إشارة البدء هى أحداث 11 سبتمبر 2001، بعد دخول بوش الابن البيت الأبيض بثمانية أشهو، وتحولت وجهته من برنامج حرب النجوم، ومواجهة العدو الجديد الذى حل محل الاتحاد السوفيتى، وهو الصين وكوريا الشمالية، إلى الشرق الأوسط والإرهاب، فلم يعد الخطر الذى يهدد بلاده هو الصواريخ الباليستية، وإنما الإسلام والمسلمين الذين حولوا الطائرة إلى صاروخ، اقتحم برجى التجارة، وأسقط آلاف القتلى والجرحى.
وكان ثمن أحداث 11 سبتمبر هو العراق، والزحف على المنطقة لإعادة تطويعها وتأديبها، وتفكيك دولها وتشتيت شعوبها، وتفتق الذهن على تطبيق نظرية الحرق الذاتى، التى كشف النقاب عنها الرئيس نيكسون، فى كتابه «نصر بلا حرب»، وإيقاظ ما اسماه صحوات إسلامية فى الدول المستهدفة، يتم امدادها بالمال والسلاح، لتشعل حروبا أهلية دينية، تؤدى إلى اضعاف الدول وهزيمتها، دون أن تريق أمريكا نقطة دماء واحدة من جنودها، فخلقوا داعش وايقظوا القاعدة والحوثيين وبيت المقدس، والإخوان فى مصر، والغريب أن كل هذه الجماعات المسلحة لم تطلق رصاصة تجاه إسرائيل، وقتلت من شعوبها عشرات الآلاف.
كتب الله النجاة لأطفال مصر فتمتعوا باللعب فى مياه الشاطئ، وأنقذهم من مصير الإبحار ليلا فى مراكب الموت، لأن لنا وطنا ودولة وجيشا يصون ويحمى، وتطور تسليحه وتدريبه، فى عز زمن الأزمة والتآمر، وكان البعض يخطط لضرب قوة الجيش، ففوجئوا به ينوع مصادر تسليحه، ويضيف أحدث الطائرات وحاملات السفن، بينما جيوش الدول الأخرى المحيطة، أما تفتت إلى عصابات وكتل مسلحة، أو انهارت تحت شدة سخونة الصراعات.
يعلم المتآمرون أن مصر هى قلب العروبة النابض، فإذا هبت فى أرضها ثورة، انتقلت رياحها إلى الجميع، وإذا نشأت بها نهضة امتد شعاعها إلى كل دول المنطقة، فخططوا لإطفاء شعلتها وإخماد بريقها، ليتسنى لهم استكمال مخطط ربيع الجحيم وديمقراطية الدماء، وليسأل العرب أنفسهم: ماذا كان يحدث لو لا قدر الله ى نجح مخطط ضرب مصر؟ من كان فى مقدوره أن يقف وسط الحطام العربى، ويصرخ مستنهضا الهمم والعزائم، باعثا فى النفوس الأمل؟
لنا وطن تحميه دولة وجيش وشعب، ويقف الآن على قدميه، نافضا عن جبينه بقايا التراب والدخان، ليقدم لدول وشعوب المنطقة نموذجا حيا وخلاقا، للربيع الحقيقى الذى يحمى الشعوب ويصون الدول.. ربيع لم تخترعه كوندليزا ولا بوش وأوباما وترامب، وإنما ينبع من الهوية العربية، وثقافة شعوب المنطقة وحضارتها.. ربيع يأتى بوئام وسلام، وليس بسيوف داعش وغارات الحلفاء.