ما الفرق بين أن تصنع نهضتك، وأن تصبح «عالة» على نهضات غيرك؟ يمر هذا السؤال على خاطرى كلما رأيت نماذج المشروعات العمرانية الجديدة المنتشرة فى مصر التى تستلهم فى مجملها نموذجا واحدا من نماذج التخطيط العمرانى، وهو ما أراه غير مجد على الإطلاق، لأنه ببساطة ينسب نهضتنا إلى غيرنا، لأننا لا نفعل شىء سوى التقليد، والتقليد كما يعرفه «أوسكار وايلد» ليس إلا «تحية من البسطاء إلى العباقرة».
هنا علينا أن نسأل أنفسنا: هل نحن مقلدون أم أصحاب عبقرية ما؟ وإذا كنا فعلا من أصحاب العبقرية فكيف نجلو الركام عن أنفسنا وكيف نكتشف خصوصيتنا؟ وهنا لابد أن نقول إنه لا توجد وصفات جاهزة للنهضة، لكننا نستطيع، على الأقل، أن نستكشف بعض الملامح العامة لتجارب النهضة فى العالم لنعرف بعض الخطوط العريضة لأى عملية نهضوية، ولعل أول ما سنكشفه فى هذا الشأن هو أن جميع التجارب النهضوية الكبرى فى تاريخ البشرية لم تعن بشىء بقدر عنايتها بإحياء إرثها الثقافى والحضارى القديم، ولرسوخ هذا المبدأ فى الضمير الإنسانى، أطلق على عصر النهضة الأوروبية اسم عصر«الرينيسانس» وكلمة «Renaissance» لا يوجد مقابل لها فى اللغة العربية، أدق من كلمة «إحياء»، وقد تعمد مؤرخو الفن الأوربيون أن يطلقوا هذا الاسم على الفترة الواقعة بين القرنين الرابع عشر والسابع عشر التى شهدت إحياء كبيرا للتقاليد الفنية الرومانية، وهو الأمر الذى ظهر جليا فى أعمال فنانى النهضة العظام الذين استلهموا الروح الرومانية فى تخطيط الساحات، وعمل التماثيل واللوحات، فاتحين الباب بعد هذا العمل المضنى لأوروبا، لكى تتقدم وتنهض دون أن تفقد ملامحها وهويتها.
الأمر نفسه حدث فى العديد من الحضارات الأخرى، فالحضارة الهيلينية مثلا لم تكن لتؤثر فى التاريخ الإنسانى العالمى، دون أن تستوعب ما قبلها من حضارات، ليحدث بعد هذا تزاوج فنى مدهش بين الحضارة المصرية والحضارة اليونانية، ليشهد العالم بعد ذلك ميلاد الحضارة الهيلينية التى اعتمدت على إحياء التقاليد المصرية واليونانية تحت رعاية الإسكندر المقدونى وما بعده من حكام، والأمر ذاته حدث فى النهضة الإسلامية الكبرى على يد نبى الله محمد عليه الصلاة والسلام، فقد اعتمد نبى الرحمة على الميراث الثقافى والأخلاقى العربى فى بداية الأمر، حتى إنه قيل إن رسول الله لم يجد شيئا صالحا فى الجاهلية إلا ودعمه وحث عليه، ثم شهدت المنطقة العربية فى مرحلة ما بعد الخلافة الراشدة تزاوجا فنيا مدهشا بين الحضارة البيزنطية والحضارة الفارسية الساسانية، ليستلهم منهما الفنان المسلم بواكير أعماله الفنية، ثم يتمرد عليهما ليصنع فنه الخاص وبصمته الحضارية المميزة.