إذا كنت من ساكنى أو مرتادى حى إمبابة، فبلا شك تعرف جيدا نفق إمبابة، والذى لا يعد مجرد مكان لعبور السيارات والمشاه الوافدين إلى الحى الشهير، ولكنه أيضا "سوقا للغلابة" يرتاده محدودى الدخل من الباحثين عن البضاعة المستعملة الرخيصة.
سوق نفق امبابة كما يشتهر بالمنطقة يتوافد عليه المئات يوميا لشراء الملابس أو الأحذية المستعملة أو الأجهزة الكهربائية القديمة، وحتى العملات القديمة لمن يهوى جمعها بأسعار رخيصة، والغرض فى النهاية الشراء بأقل الأسعار التى لن تجدها فى أى مكان آخر.
مع بداية النفق تجد فروشات متراصة بطول النفق القصير، يعرض كل منها بضاعته للوافدين إليه يوميا منذ الصباح الباكر. وهنا نتوقف عند رجل طاعن فى السن يدعى عم شحاتة حسن نحت الزمن سنواته على وجهه الباسم يفترش رصيف النفق ليبيع فيها أحذية مستعملة يبحث عنها محدودى الدخل ممن لا يملكون المئات لشراء الأحذية الجديدة من المحلات الراقية.
شحاتة الذى تخطى الـ75 عاما يجلس بهدوء أمام أحذيته المستعملة التى يعرضها للبيع، ينتظر رزقه من الراغبين فى الشراء من المارة بالنفق الذين يأتون خصيصا لهذا الغرض، وبأسعار لا تجد منافسا لها، فيبدأ سعر الحذاء من 25 جنيها حتى يصل لأعلى سعر وهو 50 جنيها لزوج الحذاء، وإذا كنت من هواة "الفصال" فسيمكنك الحصول عليها بسعر أقل من ذلك.
55 عاما قضاها عن شحاتة على هذا الفرش بنفق إمبابة، ويروى لليوم السابع كيف تغيرت الأسعار خلال الخمسة عقود الماضية التى قضاها على رصيف النفق بين بضاعته، حيث كان سعر الحذاء يتراوح بين 5 -10 صاغ للزوج الواحد، أما الآن فقفز إلى 50 جنيها، وهو موجه بالأساس لمحدودى الدخل ممن يصعب عليهم شراء الجديد.
ويعتقد كثيرون أن هذه البضاعة المستعملة تكون فى أغلب الأوقات مسروقة، إلا أنه رد قائلا: ""مفيش أى حرام يقدر يهوب ناحية الفرشة دى"، ويحصل شحاتة على الأحذية القديمة من منطقة الفحامين أو من "الزرايب" أى مقالب القمامة الكبيرة المنتشرة فى مناطق القاهرة الكبرى، مثل البراجيل وعزبة النخل والدراسة، حيث يقوم "النباشين" بجمع الأحذية القديمة وبيعها، ويشترها هو وغيره من بائعى الأحذية المستعملة ويقوموا بإصلاح التالف منها وبيعها لمحدودى الدخل من الزبائن.
ولا يتمنى البائع العجوز شيئا فيما تبقى من حياته سوى "الستر"، قائلا: "كل اللى بتمناه ستر ربنا مش عايز اكتر من كده".
السوق يفترشه الكثيرون ببضائع مختلفة فإذا اشتريت حذاءا مناسبا يمكنك أن تكمل تسوقك بملابس مستعملة فى حالة جيدة ولكن لم تدفع أكثر من 20 جنيها لشراء قميص وبنطلون فقط، هذا تجده هنا عن فرش "أبو محمد" ذو الستين عاما، والذى لم يعرف عملا فى حياته سوى بيع البيع على فرشته بنفق إمبابة.
يقول أبو محمد الذى يرتدى ملابسا مما يبيعها: "نشترى هذه الملابس المستعملة من جمعية رسالة والجمعيات الخيرية الأخرى التى تحصل عليها من تبرعات فاعلى الخير لتبيعها لنا وبمقابلها تقوم بتجهيز العرائس من الفقراء".
الموظفون من محدودى الدخل من أهم زبائن أبو محمد، والذين يفضلون شراء ملابس مستعملة بمبالغ زهيدة تتناسب مع مستوياتهم المعيشية المنخفضة، ولكنه يشكو كثيرا قيام الجمعيات برفع سعر الطن من 5 آلاف إلى 9 آلاف جنيها لطن الملابس المستعملة بعد ارتفاع سعر الدولار، رغم أن هذه الجمعيات لا تشترى الملابس وإنما تجمعها مجانا من خلال التبرعات، وهو ما يدفع بائعو هذه الملابس لزيادة الأسعار على محدودى الدخل الذين يصعب عليه تحمل المزيد من ارتفاع الأسعار.
ورغم الصعوبات التى تواجه أبو محمد بعد غلاء الأسعار لكنه يحمل نظرة متفائلة بالمستقبل ويرى أن القادم أفضل. ولديه تجد الكثير فتبدأ أسعاره بجنيه واحد للقطعة الصغيرة الخاصة بالأطفال، ويصل السعر إلى 5 جنيها أو 10 للقميص وكذلك البنطلون، وتصل أسعاره حتى 25 جنيها إذا كانت القطعة بحالة جيدة جدا، ولكنه اضطر إلى رفع أسعاره مع رفع أسعار الطن من الملابس التى يشتريها من الجمعيات قائلا: ""أنا زعلان على الزبون اللى ببيعله.. كنت ببيع القميص بـ5 جنيه دلوقت مقدرش أبيعه بأقل من 10 جنيه".
السوق لا يقتصر عند هذا الحد، فإذا أردت شراء أى شئ مستعمل ستجد ضالتك، حتى الأجهزة الكهربائية تجدها هنا لدى "أم إسلام" التى تعمل مع زوجها على فرش صغير لبيع أجزاء الأجهزة المستعملة وحتى الجديدة منها من بقايا المحلات.
وتقول ام إسلام وهى تحمل حفيدها الصغير الذى يداعب كلبه وسط البضاعة المعروضة: "بقالنا 15 سنة بنبيع على الفرش ده وربنا بيرزق"، تبدأ أسعارها من جنيه واحد وترتفع بحسب نوع القطعة وحجمها، ولكن مهما انخفض سعر بضاعتها فإن الزيون دائما يقوم بالفصال لأنه يرغب فى مزيد من الانخفاض، وتتابع: "الزبون عايز الحاجة ببلاش".
لم تخف أم إسلام تضررها من زيادة الأسعار التى طالب كل شئ وأثرت على حياتها بصورة مباشرة، ومع زيادة التكلفة لم تعد قادرة على حمل بضاعتها يوميا على سيارة لنقلها إلى المنزل الذى تسكنه فى منطقة بعيدة عن النفق وتعود به مرة أخرى، فاضطرت للبيات على رصيف النفق بجوار بضاعتها توفيرها للجهد والنفقات، فى انتظار الرزق الذى يأتيها يقينا كل يوم.