فى مايو 2008 خرج علينا رئيس تحرير تحرير نيوزويك إنترناشيونال الكاتب فؤاد زكريا بمؤلف رائع حمل عنوان «العالم بعد أمريكا»، وفيه شن الكاتب هجوما على أمريكا ووجه انتقاداته إلى سلوك أمريكا وتوجهاتها، ونبه إلى أن الأفق العالمى واعد بصعود قوى جديدة تتخذ لنفسها مكاناً ومكانة فى ساحة العالم، لكنه لا يتنبأ، كما فعل البروفيسور كينيدى، بسقوط المكانة الأمريكية، وحسبه أن يدلك فى هذا الكتاب على أن الساحة العالمية ما زالت تتسع لأكثر من منافس، ويبرهن على ذلك من خلال نهج أقرب إلى الموضوعية بالنسبة إلى دور أمريكا فى عالم اليوم بعيداً عن التهويل أو الانبهار، وبالتالى بعيداً عن الدعاية الإعلامية الفجة من جهة أو التعصب المستند إلى غرور القوة على نحو ما يتبناه «المحافظون الجدد» من جهة أخرى.
يطرح المؤلف أولى مقولات كتابه فى بداية الكتاب موضحاً أنه لا يكتب عن نهاية أمريكا، بل هو يكتب عن بداية القوى الأخرى فى العالم، ويقول على حد قول «متشيكو كاكوتانى» ناقد النيويورك تايمز: فقد طال العهد بأمريكا وهى فى موقع القوة الأعظم. وربما حان الوقت لكى تجابه هذه، القوة - السوبر، تحديات من نوع جديد تلخصها عبارة تقول: إن الشمس تشرق على روابى الشرق. ونبادر لنقول إن الشرق المعنى هنا يمتد من شبه القارة الهندية إلى الصين فى أقصى مساحة القارة الآسيوية.
يستهل فريد زكريا كتابه قائلاً: إنه يكتب عما يصفه بأنه. «التحول العظيم الذى يحدث فى طول عالمنا وعرضه. وهو تحوّل يحتاج منا أن ندرك أبعاده لأنه يتجاوز حتى أبعاد عالمنا الراهن، وبالتحديد لأن التحول بدأ مبكراً وئيداً، ولكنه كان جذرياً بقدر ما جاء بتغييرات يمكن وصفها بأنها «ثورية» أطلّت على حياة الناس منذ القرن 15 وتسارعت خطاها مع القرن 18، وتلخصت بصورة درامية كما يقول المؤلف فى معنى جوهرى واحد هو: الحداثة التى تجسدت بدورها فى متغير مهم يلخصه المؤلف بمعادلة «العلم والتكنولوجيا + التجارة والرأسمالية + الثورتان الزراعية والصناعية»، وقد أفضى هذا كله إلى الهيمنة السياسية الطويلة زمنياً لدول الغرب، بعد هذه التحولات التى يراها المؤلف أقرب إلى تغيرات الأزمنة الجيولوجية، جاءت السنوات الختامية من القرن 19 لتشهد ظاهرة ما برحت مؤثرة حتى اللحظة الراهنة وهذه الظاهرة السياسية هى صعود الولايات المتحدة الأمريكية.
وفى معرض التفسير يقول فريد زكريا «بعد أن أنجزت أمريكا تحولاتها الصناعية، سرعان ما أصبحت أقوى دولة فى العالم منذ إمبراطورية روما. ولهذا ظلت أمريكا، على مدى معظم سنوات القرن العشرين تمارس دور الهيمنة بصورة أو بأخرى على مجالات الاقتصاد والسياسة والعلوم والثقافة بلا منافس أو منازع. وكانت تلك ظاهرة غير مسبوقة فى التاريخ الحديث»،.
يشير المؤلف إلى أن التاريخ حلقات متكاملة، فما زالت عجلة هذا التطور ممعنة فى دورانها كى تصل فى الفترة الراهنة إلى تحولات مستجدة يتغير معها وضع الصعود والهيمنة الأمريكية إلى حيث يمكن القول مع المؤلف بصعود قوى جديد ودخولها إلى حلبة المنافسة والتأثير على مقاليد عالمنا ومقدراته. يقول فريد زكريا فى هذا السياق «فى الفترات الأخيرة ما برحت أقطار شتى فى العالم تحقق معدلات من النمو الاقتصادى لم تكن لتخطر على بال أحد، صحيح أن الأمر شهد طفرات وعثرات، إلا أن الاتجاه العام ظل فى حال من الصعود. ورغم أن النمو جاء أبرز ما يكون فى ربوع آسيا إلا أنه ليس مقصوراً عليها، ولهذا لم تذكر سطورنا هذه ما يوصف مثلاً بأنه «صعود آسيا» وحدها، فخلال سنة 2006 وسنة 2007 شهدت 142 قطراً فى العالم وقد حققت نمواً بمعدل بلغ 4 فى المائة أو أكثر، ومنها 30 بلداً فى أفريقيا، أى ثلثى بلدان تلك القارة السمراء، وفى هذا الإطار استقبلت الدوائر المختصة مصطلحاً جديداً هو «الاقتصادات الواعدة» التى تمتد من البرازيل والأرجنتين فى أقصى غرب العالم إلى جنوب أفريقيا إلى كوريا الجنوبية والهند ثم الصين فى أقصى الشرق المطل على الباسيفيك، وليس للقارئ أن يستهين بالظاهرات المستجدة على خارطة عالم اللحظة الراهنة.
وفى معرض القراءة التحليلية لهذا الكتاب لا نملك سوى ملاحظة ذلك التفاؤل الذى تصدر عنه مقولات كتاب «عالم ما بعد أمريكا»، ونكاد نصغى بين سطوره إلى أصداء مقولات سبق إليها محللون ومفكرون حاولوا أن يبشروا أو يحذروا إزاء ما يستجد على عالمنا من متغيرات، وفى هذا الصدد قد نستعيد كتابات الصحفى الأمريكى «توماس فريدمان» فى كتابه بعنوان «الأرض مسطحة»، بمعنى أن ظاهرة العولمة أصبحت أقرب إلى شبكة الترابط الوثيق بين سكان الكرة الأرضية، وقد نعيد التأمل أيضاً فيما سبق وحذر منه البروفيسور زبغينو بريجنسكى، مستشار الأمن السابق فى عهد الرئيس كارتر، من أن أمريكا مهددة بسور من العزلة وسط رقعة الشطرنج الدولية الكبرى، نفس المنطق وربما حذر منه البروفيسور جوزيف، ناى الأستاذ بجامعة هارفارد، حين أصدر كتابه بعنوان «تناقض الإمبراطورية»، وأكد فيه أن أمريكا لن تستطيع بمفردها أن تضطلع بمسؤوليات القطب العالمى الأكبر أو الأوحد، أو فلنقل مسؤوليات الزعامة أو حتى المسؤوليات الإمبراطورية، وفى المقال القادم نتواصل مع أمريكا والعالم.