كرم جبر

حتى تعود أم كلثوم!

الخميس، 10 أغسطس 2017 03:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فى مارس 2013 وضع المتطرفون عباية، على تمثال أم كلثوم فى مدينة المنصورة بحجة سترها، وألبسوا رأسها نقابا، وفهم المصريون الرسالة «سنقضى على بقايا قوتكم الناعمة»، ولم تكن أم كلثوم سوى رمز لمصر الولادة، التى ملأت سماء العرب بنجومها الساطعة، فى الغناء والسينما والمسرح والآداب والفنون والثقافة، ولو حصرت عددهم لوجدتهم أضعاف سكان قطر، التى تجرأت علينا فى يوم من الأيام.
 
أم كلثوم نموذجا، لأنها كانت شعلة متقدة، تعذى الضمير الوطنى بالدفء والحماس، ومازالت أصداء صوتها تستصرخ فينا حلم العودة إلى الأمجاد، فهى التى غنت «مصر التى فى خاطرى وفى فمى، أحبها من كل روحى ودمى» بعد قيام ثورة يوليو، وحين تعرض عبدالناصر لمحاولة اغتياله من قبل جماعة الإخوان فى ميدان المنشية بالإسكندرية عام 1954، سارعت بتسجيل أغنية «أجمل أعيادنا الوطنية بنجاتك يوم المنشية»، وغنت للسد العالى» كان حلما فخاطرا فاحتمالا، ثم أضحى حقيقة لا خيالا»، وغنت لوحدة مصر وسوريا 1958، ثم غنت للاتحاد الثلاثى الذى ضم مصر وسوريا واليمن، ومنحها جمال عبدالناصر وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى، ومن قبله منحها الملك فاروق «قلادة النيل العظمى» الذى يجعل لقبها «صاحبة العصمة»، وهو لقب تحصل عليه الأميرات.
 
أم كلثوم التى قال عنها المفكر الأديب الكبير عباس العقاد: «فى مصر خمسة أشياء لن تتكرر: النيل - الأهرامات - أبو الهول - أم كلثوم - العقاد»، دعمت أيضًا جامعة الدول العربية، ففى سنة 1945 أقامت حفلا لتمويل الجامعة وتأييد فكرة إنشائها، وحضر الملك فاروق الأول هذا الحفل مع عدد من الملوك والزعماء العرب.
 
أم كلثوم عند الأشرار نموذجا يجب أن يستمر اختفاؤه، حتى لا تعود السطوة المصرية فى سماء المنطقة العربية، سطوة العقل والوعى والتنوير والوطنية، فقد بذلوا مجهودا وانفقوا مليارات حتى لا يتكرر نموذج أم كلثوم، ففى عودتها ومن معها إيقاظ لمارد القوك الناعمة المصرية التى تلقت طعنات وضربات أسخنتها جراحا، ففرضوا على البلاء أجواء الغيبوبة والتسطيح واللاوعى.
 
ظن الإخوان أن بمقدورهم تغيير القوة الناعمة المصرية واستبدال قوة إخوانية خشنة بها، فواجهوا حائط صد قويا من حراس الحضارة والثقافة والفنون والمبادئ والأفكار والأخلاق وغيرها من أدوات الردع المعنوى، وتحولت البلاد إلى سجادة نار تحت أقدام الذين حاولوا طمس الهوية الوطنية أو تذويبها، وانهزمت ثقافة اللحى والذقون وأناشيد «خيبر خيبر يا يهود» وموسيقى دفوف الحرب.. وعلم مصر نموذج للوعى الناعم فى أعماق المصريين، بألوانه الأحمر والأبيض والأسود، رفعوه فى أيديهم ورسموه على وجوههم وزينوا به ملابسهم واحتضنوه فى قلوبهم، بينما قوبلت أعلام الإخوان الخضراء والسوداء بمشاعر الكراهية والاستنكار والاستهجان.
 
الحضارة والثقافة والفنون والآداب نماذج للقوة الناعمة المصرية، هى مزيج من عظمة الفراعنة وعناق المسيحية والإسلام على ضفاف النيل، تحت ظلال التسامح والمودة والتلاحم والانسجام المجتمعى، بينما قوة الإخوان الخشنة التى استعرضوها فى حكمهم كانت خلطة شيطانية مشتقة من عقائد متشددة وأفكار ظلامية.
 
ثقافة مصر التى خاف المصريون عليها من الإخوان، هى عصارة، وعى أدبائها العظام، وعندنا أيضا رصيد عبدالوهاب وعبدالحليم والسنباطى وعبدالمطلب ومحمد قنديل، وطابور طويل من عظماء الفن الذين يتجاوز عددهم عناصر الإخوان وتنظيماتهم المتطرفة، وهم حسب تعريف «جوزيف باى» نائب وزير الدفاع فى عهد كلنتون ومخترع نظرية القوة الناعمة «أصحاب الجذب والإعجاب والضم، دون اللجوء إلى القوة كوسيلة للإقناع، وأصحاب القوة المعنوية الروحية القادرين على التفاعل والتأثير».
 
استهان الإخوان بتلك القوى الناعمة فى ضمير الوعى المصرى أو لم يفهموها، وظنوا أن مظاهر «الإسلام الشكلى» التى جاءوا بها ونصبوا شباكها حول البسطاء والطيبين، مشفوعة بأكياس الأرز والسكر وزجاجات الزيت، يمكن أن تكون قوتهم الناعمة وتجذب الناس لهم، ففوجئوا بـ«إسلام حقيقى» يتسلح به المصريون، ويتوافق مع تسامحهم وحضارتهم وثقافتهم، ولا يمكن أن يزايدوا عليه أو يلعبوا به، ولم تنطل عليهم كنموذج تخاريف قدوم جبريل لصلاة الفجر فى رابعة، أو أن نبينا الكريم طلب من الدكتور مرسى أن يؤمه فى الصلاة، ولم يبتلع الطعم سوى مخدوعيهم الذين يعرفون أنها أكاذيب ويصدقونها، بينما وظف المصريون قوتهم الناعمة لتعضيد القوة الصلبة، فى الحشد التاريخى العظيم يوم 30 يونيو.
 
القوة الناعمة وفقا لجوزيف ناى من جامعة هارفارد لوصف القدرة على الجذب والضم، دون إكراه أو استخدام القوة كوسيلة للإقناع، فى الآونة الأخيرة، تم استخدام المصطلح للتأثير على الرأى الاجتماعى والعام وتغييره، من خلال قنوات أقل شفافية نسبياً والضغط من خلال المنظمات السياسية وغير السياسية، ومع القوة الناعمة «أفضل الدعايات ليست دعاية»، وإنما «المصداقية أندر الموارد».
 
مصر فى أمس الحاجة لأن تنفض التراب عن الذهب، وأن تستعيد ثقافتها وحضارتها وفنونها وآدابها، وأن تحمى شعبها بسياج آمن من الوعى واليقظة، الوعى بما حدث فى سنوات تجريف قوتها الناعمة، واستبدالها بأشياء أخرى لا تنبت من الأرض المصرية، إنما من ثقافة الكهوف والخيام، فأهانوا المثقفين لصالح المتطرفين، واحتكروا كل من ظهرت عليه بوادر الإبداع، حتى يستكين ولا يبدع، فلا تستغربوا إذا حاولنا ذكر أسماء لامعة أو نصف لامعة فى أى مجال فلا نجد.
 
مصر تحتاج صيحة إفاقة «قوم يا مصرى، مصر بتنادى»، وتشتد قوقفها إذا استعات ذاتها وروحها وحضارتها، وبداية الطريق هى تهيئة الأجواء لعودة نموذج أم كلثوم، البنت الفلاحة التى جاءت من أرياف الشرقية، فسطع نورها فى العالم كله.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة