يظل الموت مبهما غامضا حتى يدخل البيت لأول مرة ويختطف عزيزا على القلب، لا يخرج بعدها أبدا يبقى ضيفا غير مُرحب به، لكنه جزء من حقيقة الحياة، تلك الحقيقة التى لم ندركها إلا بعد أن نالت من قلوبنا.
مستعجل على رقدتهم جنبك ليه؟.. هكذا ودع أهل أبى عمى الصغير عندما مات بعد أبيه بخمس سنوات، لائمين على جدى الذى رأوا أنه تعجل نداء أبنائه، وكأن رحيل الأبن كان بيد الأب، ولكنها لحظات الحزن التى ما أن تمتلك القلب حتى يفقد العقل اتزانه، ذلك الاتزان الذى فقدته أنا أيضا بعدها بخمس سنوات أخرى عندما رحل أبى، تساءلت هل حقا يريد جدى جمع شمل أبنائه فى القبر، هدأت النفس بعدها وعاد للعقل إتزانه، لكنه اعتاد رحيل الأبناء ليلحقوا بأبيهم، عشرون عاما مرت على رحيل جدى اجتذب فيها أربعة أبناء، كل خمسة أعوام يستدعى أحدهما.
اعتقد أن أهم أسباب إعجابى الشديد بأعمال عبد الحكيم قاسم هو الموت الذى برع فى الكتابة عنه، وأحاطه بهالة فريدة بأدائه اللغوى الجذاب وقدرته على خلق صور جمالية بديعة، فكان الموت ملمحا بارزا فى أغلب أعماله، وتعد روايته القصيرة "خبر من طرف الآخرة" واحدة من أكثر أعماله انشغالا بالموت، وما يدور مع الميت بعد نزول القبر، يحاول "قاسم" من خلال الرواية كشف الستر بين الدنيا و الآخرة أن ينقل خبرا من الآخرة إلى الدنيا.
قدم عبد الحكيم فى الرواية حوارا فلسفيا بين الميت والملكين ناكر ونكير، أقر فيه "قاسم" أن الموت كاشف للأستار ، فيفيض نور المعرفة على الإنسان بعد موته، معرفة حقيقة كل ما عاشه، كل ما ارتكبه وما عاناه.
قدم "قاسم" من خلال الحوار على لسان "الملكين" اعتراضا على قهر الإنسان باسم الدين، فيصور "الملكان" المجتمع بالبناء الهرمى والإجبار ضرورة لتماسك البناء، فيتهما الإنسان بالعسف بمن أقل منه أو قاعدة البناء الهرمى للمجتمع كما أطلقوا عليه، فيقول أحد الملكين: يتجلى العسف أكثر فى وقعه على قاعدة الهرم .
ويوضح الآخر ما هى قاعدة الهرم تلك قائلا: الطفل والمرأة والعبد والأجير والعاصى.
فيحتج الميت على تصورهما قائلا : إن المرأة والطفل يحاطان عادة بكل رعاية.
فيرد عليه نكير: ذلك هو تشييئهما حتى يكونا محلا لتحقيق رغبة الأب فى القوة، والزوج فى الاستمتاع الجنسى.
بنى عبد الحكيم قاسم فى تلك الرواية القصيرة حوارا هادما لإرث الإنسان من القهر والإجبار فى نواحى كثيرة من حياته ، حتى إنه اعتاد عليهما ، فأصبح يسعى أحيانا إلى إيجاد تبرير لكل ما يلقاه من قهر وإجبار على أنها سُنة الحياة. رفض "قاسم" السلطة الدينية المتحكمة فى حياة الإنسان على لسان "الملكين".
ناكر: النفاق هو الحالة الثالثة بين الإيمان والإنكار وهى شريطة الصعود فى الهرم.
نكير: بذلك تكون السلطة فى يد أكثر الجماعة علما بشريعتها ، وأكثرهم إزدراءا لهذه الشريعة ، فى يد من يحولونها من فكر إلى كتاب مقدس .
الميت: أى إلى سلطة قهر .
حملت "خبر من طرف الاخرة" إدانة الآخرة للدنيا ، إدانة قهر الإنسان باسم الدين أو أى شئ آخر. إدانة حتى لأساليب التربية ، فيُعظم الملك ناكر ما فعله الميت حينما رفض وهو طفل الذهاب إلى المدرسة لما وجده فيها من قهر وتعذيب فقال له ..
ناكر : كان عظيما أن ترفض البقاء تحت تهديد الخوف وأن ترفض كذلك وسائل التعذيب فى المدرسة تلك التى ليست من التعليم فى شئ ولا تهدف إلا إلى تحويل الطفل إلى كمية لينة من الطاعة والخضوع.
وفى ظل انشغال "قاسم" الدائم بالموت فى أعماله، قدم فى قصته القصيرة "الموت والحياة" تعبيرا موجزا عن ضعف الإنسان وعجزه أمام حقيقة الموت فقال : "أقدام القارئين دقت على قلب سكة المقبرة فى إيقاع بدأ يتسرب عليه الوهن من الذهول أمام شسوع الدنيا وغلبة الموت وقلة حيلة الإنسان، من يمت إنما يذبح ذبحا، من يمت إنما يفنى ويندثر ويصير ترابا" ليعبر بتلك الصورة عن هلع الإنسان من الموت، عن الخوف الدفين داخله من الرحيل.
أعمال أدبية كثيرة قدم قاسم فيها الموت منها "الذباب الأخضر" .. "جدل الحياة والموت".. "سطور من دفتر الأحوال" وغيرها حتى انتهى "قاسم" من حديثه عن الموت فى أعماله إلى الكتابة عن موته هو فى قصته القصيرة "السرى ليلا" التى كتبها عام 1989 -أى قبل وفاته بعام واحد- تخيل فيها جنازته وحملة نعشه وما يتمناه من مشيعيه.
فأدار حوارا بينه وبين وأخيه..
- ما الذى يقرأون فى جنازتى؟
- دلائل الخيرات وبردة الأباصيرى
- كنت أفضل شيئا أكثر مرحا.. وأكثر رفقا بحالتى المزاجية.
- مَنّ عليك الدراويش بالقراءة إكراما لوالدنا.
- إنى أتلقى من يَم المقبرة الريح بردا وسلاما على وجهى، خلى الذاكرين حملة نعشى ومشيعى جنازتى يتمهلون رفقا بى. خلونى أتأمل القمر..!
وإن كان الموت أحد أهم السمات المميزة لأدب عبد الحكيم قاسم فإن نموذج المرأة المقهورة أيضا كان سمة مميزة لكثير من قصصه القصيرة التى برع خلالها فى تقديم بورتريهات إنسانية عذبة. انتصر فيها للشخصية التى ربما انتقص من حقها فى بعض أعماله الروائية لصالح الحدث أو المكان اللذان كانا أكثر حضورا كروايته "قدر الغرف المقبضة".
أولهن "صِديقة" بطلة قصة "ليلة شتوية" نموذج للمرأة القوية التى يقتلها قهر المجتمع، صِديقة قتلت قاتل أخيها الوحيد، فلفظها مجتمع الذكور، وتركها خطيبها فكيف له أن يتزوج من قاتلة؟! نفس المجتمع الذى يمجد ويفتخر بما فعلته مبروكة لو كانت رجلا.
يصف "قاسم" مرارة وقسوة أهل القرية لصديقة على لسان أمها قائلة: آه يا بنيتى.. يا حبة الأم المسكينة.. الله يحاسبهم.. قتلوك ومازالوا يقطعون جسدك على الأفران فى الليالى الشتوية.
وفى القصة القصيرة "السفر" يحكى عن سيدة ريفية فى طريقها من قريتها إلى طنطا لزيارة السيد البدوى، فتصطدم براحتى القهر فى المجتمع الرجل والسُلطة. الكمسارى -رجل السلطة- الغاضب الحانق على الجميع يسُبها لأنها لم تسرع فى إخراج تذكرتها عندما طلبها ، فيقرر أن يغرمها قهرا غرامة عدم شراء تذكرة رغم أنها تمتلك واحدة بالفعل .
أما بائع مناديل الرأس الذى مارس سلطته وقهره لها كرجل، تنصل سريعا منها بعد أن قبض ثمن بضاعته وما أن اكتشفت بها عيبا حتى صرخ فيها مهدد متوعدا وتركها لا تدرى ما تفعل، فلا تملك إلا الشكوى للسيد البدوى : لولاك ما جينا يا أبو فراج .
ورغم ما عانته فى رحلتها تعود إلى بيتها بما اشترت لأطفالها تقاوم القهر بفرحتهم بعودتها كما وصفها "قاسم": أسندت هى ظهرها للحائط ومددت رجليها على الحصير. تعبة وقانطة.. لكنها تبتسم لفرحة العيال.
نموذج آخر لقهر المجتمع للمرأة قدمه "قاسم" فى قصته القصيرة "المندل" قهر أدى إلى القتل، كل أهل القرية قتلوا تلك العجوز، بعد أن اتهمهوها ظلما بالسرقة، قتلوها بصمتهم وتصديقهم خرافات شيخ المندل الذى لم يجد أفضل من إمرأة فقيرة عجوز لا تملك من حطام الدينا مال أو أهل ليُحمٌلها ومندله جريرة سرقة لم ترتكبها، فيعبر قاسم عن قهر المجتمع لها قائلا: "ما أتعس الضعفاء المقطوعين"
أما شخصية مبروكة فى القصة القصيرة "الصندوق" نموذج إنسانى رسمه عبد الحكيم قاسم بعناية شديدة ربما مراعاة لمشاعر قلب إمرأة كسره موت زوجها بعد أيام قليلة من عرسهما، مبروكة أرملة قهرها الموت أولا ثم سلطة زوجة أخيها المستمدة من سلطة الأخ، لم تستطع مبروكة الاحتفاظ بصندوق صغير يضم ذكرياتها القليلة مع زوجها استولت عليه زوجة أخيها فعبر "قاسم" عن جرحها "تحتج مبروكة على قهرها بالصمت، تخرج لا تلوى على شئ إلا ذكرياتها التى بُعثرت، ولن تستطيع بعد جمع شتاتها من جديد."
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة