لأننى ابن بيئة شعبية، فالإحساس بالتاريخ مسألة لها إيقاع خاص داخلى، وأنا متحيز للأشياء الحميمة فى ذاتى، أحيانا أنتزع الحاضر من ذاكرتى وأعود فترات معينة أتحسسها وأتلمسها، أدقق فيها، هذا التاريخ يضج بالإيقاعات التى تظل فى داخلك كما لو أنها صراخ، لهذا حلمت وتمنيت أن أجسد شخصية الزعيم الخالد جمال عبدالناصر قبل أن يجسده بروعة صديقى وزميلى أحمد زكى».. تلك بعض من كلمات الفنان الراحل نور الشريف، التى ذكرها الناقد الفنى أحمد السماحى.
هذه بعض كلمات نور الشريف والذى تحل اليوم ذكرى وفاته الثانية، حيث رحل عن عالمنا فى 11 أغسطس 2015، ورغم مرور عامين على رحيله، لكنه مازال موجودا بيننا بقوة، بروحه وشخصياته التى جسدها فى السينما والتليفزيون والتى لا نزال نشاهدها من خلال شمس نور والتى أبدا لن تغيب، فهو صاحب مشوار فنى طويل بدأه عام 1966بفيلم «قصر الشوق»، واستمر حتى 2014 والذي قدم فيه من خلال أخر أفلامه "بتوقيت القاهرة".
أسطى الفن وشخصياته المتعددة
نور الشريف، حريف الفن، والأسطى الذى نهل من مدرسته الكثيرون، ولم يبخل نور أبدا على زملائه، رفقاء المشوار، أو النجوم الشباب من الأجيال الجديدة بالمعلومة أو النصيحة، فهو دائما كان يقوم بدور «الأب الروحى» الذى يرعى ويحتضن المواهب، ويساعدهم على تطوير أدائهم وأدواتهم، ويبدو أن سعة أفق نور وتنوعه وثرائه الثقافى والإنسانى هو ما ساعده على الانتقال من شخصية إلى أخرى بحرفية شديدة، فهو كمال عبدالجواد بطل «قصر الشوق» و«السكرية»، ثم يكون بعد سنوات نور فى «زوجتى والكلب»، ثم يوسف شاهين فى «حدوتة مصرية»، وحسن فى «سواق الأتوبيس»، وسيد فى «ليلة ساخنة»، وجعفر الراوى فى «قلب الليل»، وقبله كامل فى «السراب»، والأستاذ فرجانى فى «آخر الرجال المحترمين»، ويوسف كمال فى «البحث عن سيد مرزوق»، الذى يعد واحدا من أهم أعماله، والذى رصد واقعا سياسيا واجتماعيا شديد التراجع، حيث تقوقع اليسار بكل أطيافه حول نفسه، وترك الساحة لغيلان الانفتاح.
نور وسينما النقد السياسى
من الشخصيات التى لا تنسى فى مشوار النجم المبدع الراحل نور الشريف شخصية طالب الطب «إسماعيل»، التى قدمها فى فيلم «الكرنك» 1975، والتى تم من خلالها استعراض صريح للنظام السياسى، واستخدامه لكل أنواع التنكيل والقهر ضد من يخالفه الفكر والرأى السياسى.
ومن خلال هذه التجربة أسسا، المخرج على بدرخان ونور، لسينما سياسية أكثر جرأة، حيث صاحبت فيلم «الكرنك» ضجة كبيرة فى الوسط الفنى، وأرخ الفيلم لفترة سياسية، تعتبر من أهم فترات التاريخ السياسى المصرى منذ الهزيمة فى 1967 وحتى حرب أكتوبر 1973، مرورا بحركة التصحيح فى 15 مايو 1971، رغم أن البعض اعتبره تشويها لثورة يوليو.
وفى هذا الإطار أيضا هناك شخصية «حسن»، سواق الأتوبيس، والتى صارت أيقونة ضمن أيقونات السينما العربية وليست المصرية فقط، و«سيد»، سائق التاكسى فى «ليلة ساخنة»، و«شحاتة أبوكف» لاعب الكرة الشديد الموهبة، القادم من الأرياف، الذى لا يملك خبرة حياتية تذكر، وجعفر الراوى فى «قلب الليل»، تلك الشخصية التى صاغها المبدع محسن زايد بعبقرية، وكمال تاجر المخدرات فى «العار» بلزماتها، الجدية فى حركة الرقبة، والحوارية فى جملة صرنا نرددها فى مواقف بيننا «حقها ولا مش حقها»، والأستاذ فرجانى فى «آخر الرجال المحترمين»، وجابر عبدالغفار فى «بئر الخيانة»، و«ناجى العلى».
شخصيات كثيرة متنوعة ومختلفة ما بين الشاب الرومانسى، الثورجى، الثائر، المنتقم، الأستاذ المحامى، المصور الصحفى، الرجل العصامى، لاعب الكرة، الفتوة، الفيلسوف، أينما نلتفت نجد صدى وظلا، بل نجد نورا لهذه الشخوص.
نور وروح نجيب محفوظ
نور الذى تشرب الكثير من مفاهيم «المجدعة»، وعرف كيفية أن تكون «بنى آدم حر»، صاحب رأى ومبدأ، وجد الكثير ضمن شخصيات محفوظ تتجسد فيها تلك المعانى، وهو ما أدركه بعينه الثاقبة، فأدب نجيب محفوظ يرسم صورة بانورامية وشديدة العمق للمجتمع المصرى وتحولاته، وأيضا يحلق فى مناطق بعيدة ومثيرة للجدل، وتحمل أبعادا فلسفية، بدءا من ماهية الخلق، وصولا إلى الجدل بشأن الثوابت، وقد تكون المصادفة هى التى وضعت نور فى طريق الأديب الكبير عندما تم ترشيحه لتجسيد دور كمال عبدالجواد مع المخرج حسن الإمام، ومن بعدها صار الفتى الذى لم يكن قد بلغ العشرين من عمره بعد عاشقا لأدب محفوظ، حيث وجد نفسه بين جنبات رواياته، وأطلق لموهبته العنان مع تنوع الشخصيات التى قدمها، وكان محفوظ قد أكد أن نور أدهشه بأدائه لأدوار بعض أبطاله، قائلا: «إن نور الشريف حينما يمثل لا يكون ذاته، وإنما يكون الشخصية التى رسمتها»، كمال عبدالجواد الشاب الخجول الطيب، الذى يتمتع ببراءة نادرة، حيث إنه لا يزال فى مرحلة تكشف الأشياء.. الحب، الوطن، الانتماء، كمال الذى يبدو شخصا مترددا يحتاج إلى من يأخذ بيده، وفجأة يتحول إلى مناضل ضد الاحتلال الإنجليزى ويموت شهيدا.
ويتماهى نور فى شخصية كمال عبدالجواد، ويستطيع وسط الحضور الطاغى للفنان الكبير يحيى شاهين بشخصية بطل الرواية وعميدها السيد أحمد عبدالجواد، أن يعلن عن مولده كنجم سينمائى، ويبقى كمال عبدالجواد الأقرب شبها بنور الشريف، وكما قال هو نفسه فى أحد حواراته: «كنت كمال عبدالجواد الشاب الحساس الممتلئ بالأمل والرومانسى المثالى، وأعتقد أن كل شباب مصر فى تلك الفترة كانوا كمال عبدالجواد، إنه واحد من جيل الثورة، ولكن تكوين الشاب ظل كما هو حتى بعد هزيمة 67، وأنا أعتبر قصر الشوق مثل ابنى البكرى»، وبعدها جسد دور كامل فى فيلم «السراب» إخراج أنور الشناوى، وهى رواية تحمل أبعادا سيكولوجية صاغها الأديب الكبير عن بطل شاب عاجز وفاشل، يحمل ملامح «أدويبية» نتيجة علاقته المرضية بوالدته منذ الطفولة، حيث ينشأ خجولا، معزولا، ويخفق فى دراسته، ويعجز حتى فى علاقته بزوجته، فيلجأ إلى طبيب نفسى بحثا عن علاج، وهو الدور الذى يأتى مغايرا تماما لكمال عبدالجواد، والذى يسمح بانطلاقة جديدة لموهبة نور، حيث قدم الشخصية بوعى كامل بكل مفرداتها، ويحصل نور العديد من الإشادات عن دور كامل.
وفى عام 1973 يعود نور للثلاثية فى «السكرية» بعد عشر سنوات من فيلمه الأول «قصر الشوق»، وقد أصبح أكثر خبرة ونضجا، ثم يلتقى عام 1975 مجددا مع أدب محفوظ فى فيلم «الكرنك».
ويشهد عام 1981 تجربتين مهمتين فى علاقة نور الشريف بأدب الروائى العالمى من خلال فيلمى «أهل القمة» و«الشيطان يعظ»، ويرصد الأول تأثير الانفتاح الاقتصادى على المجتمع، ويجسد نور شخصية «زعتر» الذى يعمل فى تهريب البضائع، ويسعى للزواج من شقيقة الضابط المتمسك بقيمه وأخلاقياته، ويتصدى لهذه الزيجة، وهو الفيلم الذى شارك فى بطولته عزت العلايلى، وسعاد حسنى، وأخرجه على بدرخان. وشخصية «زعتر» شخصية لا تنسى فى مشوار نور الشريف، وتعد واحدة من الأيقونات التى قدمها النجم الراحل، خصوصا أنها تحمل تناقضات كل تلك الفترة الشائكة سياسيا واجتماعيا.
فى «الشيطان يعظ» الذى كتب له السيناريو والحوار أحمد صالح، وأخرجه أشرف فهمى، يجسد نور شخصية «شطا الحجرى»، الحالم بأن يصبح مثل «الدينارى الكبير»، فريد شوقى، فتوة الحارة الشعبية التى يقطن بها، ويقع فى غرام «وداد» خطيبة «الدينارى» ويتزوجها.. نور كان رمزا للشخصية المصرية البسيطة فى الفيلم، والتى تقع ضحية الفتوات، «الدينارى» من جهة، و«الشبلى» عادل أدهم، الفتوة، من جهة أخرى.
وفى «قلب الليل»، وهى الرواية التى تحمل طابعا فلسفيا، كتب السيناريو والحوار لها محسن زايد، وإخراج عاطف الطيب، حيث يجسد دور «جعفر الراوى» الذى يهجر دراسته فى الأزهر، ويتمرد على جده، ويتعلق قلبه براعية أغنام، هى «مروانة»، ويعترض الجد على زواجه منها، فيطرده من قصره، ويفشل فى علاقته بـ«مروانة»، ويتزوج سيدة ارستقراطية لكنه يعيش عالة عليها، ويغرق فى الفشل، ويقتل صديقه الذى يواجهه بفشله ويدخل السجن، وحين يغادره يهيم على وجهه فى شوارع القاهرة.
و«السيرة العاشورية» التى صاغ لها السيناريو والحوار محسن زايد أيضا، وإخراج وائل عبدالله، وهو عمل تراثى تاريخى، تناول من خلاله مفهوم وشكل البطل الشعبى من خلال سيرة «عاشور الناجى»، الشخصية التى لعبها المبدع الراحل نور الشريف، إذ مثل رمزا للمبادئ والقيم والعدل والرحمة وإنصاف البسطاء، كما ألقى الضوء على تأثر الحارة المصرية بفكرة البطل الشعبى عند الأديب نجيب محفوظ، خاصة البسطاء، ودفاعه عن حقوقهم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة