فى أرصفة وسط المحروسة والشوارع التجارية فى كل الأحياء، الفقيرة والغنية، حياة كاملة ومتنوعة، تحكمها أعراف وتقاليد وصراعات أغلبها غير معلن، وممارسات للقوة بين المشاه والباعة الجائلين والشحاذين وباعة الصحف وأصحاب المحلات والأكشاك على افتراش قسم من الرصيف، ليعرض كل منهم بضاعته، ويسعى لكسب عيشه، أو يركن سيارته، وإلى جانب كل أشكال وأنواع الصراعات هناك تعايش قلق وآخر مستقر بين الجميع.
البعض يستأجر المكان، ويسدد كل يوم أو أسبوع لشخص ما مهيمن عليه بطريقة أو بأخرى، بعضهم يفترش أرضية الرصيف، وبعضهم يعرض بضاعته على عربات صغيرة أو حامل بسيط، والأعلى مكانة يقف بسيارة ملاكى قديمة أو سيارة نصف نقل فى الشارع، ويمد معروضاته إلى الرصيف.
أصناف لا حصر لها من السلع والخدمات، تأجير شقق، مكالمات محمول وبيع كروت شحن، وبيع خبز وملابس وفاكهة ومسابح وكتب وصحف ولعب أطفال وآلات وجوارب وأقلام وسيديهات وشرائط كاسيت مقرصنة.
أشياء كثيرة متنافسة أغلبها وارد من الصين تعرض فى كرنفال غريب من الألوان، يحتل مساحات واسعة من الرصيف، وأحياناً كل الرصيف، وعادة ما يصاحب هذا الكرنفال أصوات عالية وصخب مجنون، يروج لكل سلعة، ويعدد مزاياها.
وأحيانا يتوقف كل هذا الصخب والعراك فى حال تدخل شرطة المرافق لإزالة المخالفات، حيث يتفرق الجميع أو تلقى الشرطة القبض على بعض البائعين، ومعهم السلع التى يعرضونها للبيع، لكن الطريف أن كرنفال البيع ينتظم ويعود إلى مساره السابق بعد أقل من نصف الساعة من حملة المداهمة.
حيث يتعاون كل الباعة والشحاذين وأطفال الشوارع، رغم كل التنافس والصراع الدائم بينهم، ويعيدون الكرنفال للعمل بسرعة، وفى صورة أبهى وأعلى صوتاً مما كان عليه الوضع قبل زيارة رجال الشرطة، الكل يحاول أن يعوض خسائره، ويأمل فى المستقبل خيرا، ومن جديد يشتعل التنافس وكأن مطاردة رجال الشرطة كانت نوعا من التغيير المطلوب فى مشاهد الكرنفال.
ومع الليل ينتهى الكرنفال، وتخلو أرصفة الشوارع التجارية من الباعة الجائلين، لكن آثار بضاعتهم تبقى فى شكل أكوام من العلب والأوراق والمياه الآسنة، ومع ذلك تبدأ الحياة الليلية لبعض أرصفة القاهرة، ويستمر الشحاذون وأطفال الشوارع فى ممارسة أنشطتهم، لكن الأهم أن أغلب المقاهى أو المطاعم تتوسع وتشرع فى استغلال الأرصفة لاستخدام زبائنها، من شباب وأسر من مختلف الأعمار والطبقات. وتمتد الموائد والكراسى وأنواع الطعام والنراجيل وتحتل الرصيف.
والطريف أن هناك عدة مطاعم ومقاهى لا يزدهر عملها إلا على الأرصفة وفى وقت متأخر من الليل، فالقاهرة ليلاً أجمل وأقل ضجيجاً وزحاماً. لكن ربما يكون الانخفاض النسبى فى أسعار تلك المقاهى والمطاعم سبباً قوياً لشغف القاهريين بمثل هذه الجلسات الليلية على الأرصفة، أو ربما تكون بمثابة تعويض عن حرمان القاهريين من الرصيف المزدحم والمشغول طوال اليوم، لكن هذا التعويض نفسه يأتى على حساب حق المشاه الذين يفترض أن الرصيف هو مجال حركتهم الآمنة بعيدًا عن مخاطر الشارع.
والحقيقة أن القانون مُغيب أو غائب عن تنظيم الرصيف، والقانون يغيب طويلاً، لكنه يظهر أحياناً دفاعاً عن الأرصفة، باعتبارها فضاء عاما وخدمة عمومية، فتجد شرطة المرافق أو موظفى المحافظة يحررون محاضر لإشغالات الطريق والأرصفة ليلاً أو نهاراً، سواء كانت لمقاهى أو مطاعم أو ورش أو محلات.
لكن المشكلة أن هذه المحاضر تبدو شكلية وغير فعالة، فهى موسمية وتتحطم على صخرة الرشاوى وتدخل المعارف والأقارب من أصحاب السلطة والنفوذ، الأمر الذى يؤكد فى التحليل الأخير عدم احترام القانون ونسبية الإجراءات، وهو ما يشجع على استمرارية الاعتداء بصور رمزية أو مادية على الأرصفة، فصاحب المحل أو المقهى أو الورشة علمته التجارب السابقة أنه لاشىء جاد، وأن القانون والموظفين المنوط بهم تطبيقه يمكن التفاهم معهم وترضيتهم.
ومن جانبهم، فإن الموظفين المنوط بهم تنفيذ القانون يرحبون بالتفاهم مع أصحاب المحال والمقاهى والورش، فالحياة صعبة والدخل محدود، كما أن قطع الأرزاق أو التضييق على الناس فى أرزاقهم حرام، فهذا من وجهة نظرهم أفضل من وقوعهم فى براثن البطالة والشحاذة والإجرام.
هكذا تعمل آلية تأويل بعض القيم والعادات الثقافية المصرية لتبرير انتهاك القانون وتحقيق المصلحة الذاتية، وتستمر انتهاكات الفضاء العام، ويصبح الاعتداء على الأرصفة ممارسة يومية اعتيادية، ولما لا طالما أن كثيراً من المصالح والهيئات الحكومية بل وبعض الجهات السيادية تسيطر على الأرصفة المجاورة وتحولها إلى جراجات لسياراتها، ويصل الأمر إلى إقامة مظلات ومبان ملحقة بالمبنى الأساسى لتلك الهيئات الحكومية.
أكثر من ذلك فإن الكثير من المساجد والكنائس تسيطر على الأرصفة التى توازيها، وتقيم مظلات وأبنية خرسانية تصبح جزءًا من المسجد أو الكنيسة، وفى بعض المواسم يمتد نشاط رواد هذا المسجد أو تلك الكنيسة إلى الرصيف والشارع، وأحياناً تتوقف حركة السير أو تتعرقل لإقامة صلاة الجمعة أو التراويح فى رمضان أو الاحتفال بعيد أحد القديسين.
هكذا يتعلم المواطنون من أجهزة الدولة والمؤسسات الدينية أن القانون لا وجود حقيقى وفاعل له فى أرض الواقع، وأن الأرصفة هى مجال لممارسة القوة، سواء كانت مادية أو معنوية، المهم أن تسيطر على مساحة من الرصيف العام تضاف إلى دكانك أو تصبح جراجاً لسيارتك، أى يتحول جزء من الرصيف إلى جراح ملحق بشقتك.
مثل هذه الممارسات التى تنتهك الأرصفة- الفضاء العام- والقانون، ربما يدركها بعض الباعة الجائلين أو المتعاطفين معهم، فيدخل فى يقينهم أنهم الأكثر استحقاقاً لانتهاك الأرصفة- الفضاء العام- بدلاً من مؤسسات الدولة وأصحاب المقاهى والمطاعم والمحلات والورش!! فالباعة والشحاذون هم أيضاً مواطنون، ووفق المنطق الشعبى «اشمعنى» هم أحق بالأرصفة من الآخرين، كل الآخرين.
أنا لا أبرر انتهاك الفضاء العام، لكنها مقابلة منطقية قد تطرأ على أذهان البعض، وتظل مسألة جديرة بالتفكير، فالدلالة الأهم فى خطاب الأرصفة المراوغة، وأنماط الحياة والصراع والتعاون فوقها، أن المواطن يتعلم، بطريقة غير مباشرة فى حياته اليومية، عدم احترام القانون والفضاء العام، ويتعلم بطرق عديدة أهمية أن يستأسد، ويتجاوز القانون - الذى صار ضعيفا ومراوغا- ويمارس القوة ويحوز مساحة وحقاً أكبر مما يستحق من الفضاء العام، وعلى حساب المواطنين الآخرين، فالدولة غائبة أو تدعى الغياب.
والمشكلة أن الفضاء العام قد يكون هنا الشوارع، والأرصفة، لكنه أيضا المدرسة والمستشفى والبنك والمصنع، وهكذا تصبح كل الخدمات العامة والمال العام بل وحتى المال الخاص مسرحاً لممارسة القوة الناعمة أو المادية، واستخدام وسائل غير أخلاقية وغير قانونية لانتزاع ما لا يستحقه كفرد، وعلى حساب بقية المواطنين، وهكذا تتعزز آلية تغليب المصلحة الخاصة على المصلحة العامة، ويصبح انتهاك القانون أو التحايل عليه أسلوب حياة وجزءا من ثقافة مجتمع.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة