تذكرته وأنا أكتب بالأمس عن اللواء مهندس «مصطفى السيد مستشار وزير النقل الذى أطلقت عليه لقب شهيد الإحساس، فهذا قتله مشهد وهذا قتلته كلمة، وتذكرته رغما عنى لأنى أكتب هذه السطور فى يوم ذكراه السادس والثلاثين، فهو شاعر مصر الأكبر «صلاح عبدالصبور الذى يقول عن نفسه «لست شاعرا حزينا.. ولكنى شاعرٌ متألمٌ» والألم قد يكون دليلا على إنسانية الإنسان وعدم تبلده، والشعور به قد يكون قرين الحياة والقدرة على الرؤية والتفاعل.
تأمل وتألم، عانى وكتب، سهر ورأى، بكى وتنهد، احترق فأضاء، وعلم فبلًّغ، وخبر فحدث، وحلم فتعذب. جميعهم استخدم «الشعر» وهو الوحيد «خادمه». بنبله اكتفى، وبعفويته تباهى، وبصدقه تزين. صوته الخفيض قادر على إيقاظ الموتى ومساعدة الضعفاء وهدهدة المحزونين، وطمأنة العاشقين منزلا فى قلوبهم السكينة من كل شر، والبراءة من كل إثم، والنجاة من التدنى، والفوز بكرامة الإنسان، هو ضمير الشعر العربى الحديث، ولا أعرف كيف كان يعيش الشعر قبله دونما ضمير، فقدناه فى الثالث عشر من أغسطس منذ ثمانية وعشرين عاما، ومن يطالع ديوانه الفياض سيكتشف أنه كان الأقرب إلى قلب الإنسانية بشفافيته ونزاهته الفنية المرهفة، عن صلاح عبدالصبور أحدثكم، ويا له من «صلاح عبدالصبور». الحب والشعر عنده توأمان، لا يعيش أحدهما دونما الآخر، ولم تغب الأنثى عنه فى أى من مراحل حياته الشعرية، وهو الذى كان يحيا شعرا، ويموت شعرا، ويحب شعرا، حتى حينما كتب سيرته الذاتية أسماها «حياتى فى الشعر» يبحث عن حبيبته فى كل الحنايا يناديها «يا حفنة من الصفاء ضائعة» ويجدها فيغنى لها: صافية أراك يا حبيبتى كأنما كبرت خارج الزمن» ولم ينس حينما تمنى ميتته أن يتمنى إما أن يموت شاعرا يحدث أو يسمع أو أن يموت بجوار حبيبته «وإن أتانى الموت فلأمت محدثا أو سامعا/ أو فلأمت أصابعى فى شعرها».
«قلبى حزين.. من آتى بالكلام الفرح» هكذا قال، وهكذا فعل، لم يأت بكلام فرح، لكنه أتى بكلام «منير» وهو الذى عرف معاناة الحرف والكلمة والمعنى والأسطورة، عاش فى ليلٍ ليهب لنا النهار فى أغنية.