«وليأت الموت وأنا مسترح مرتديا ملابسَ جميلة ومرتبة، أنا أحب الأناقة حتى فى الموت، أحبه أن يكون أنيقًا ومرتبًا وجميلًا ونظيفًا».
هكذا انتظر الشاعر الفلسطينى سميح القاسم الموت بعد إصابته بسرطان الكبد، الذى ظل يعالج منه بالكيماوى إلى أن رحل يوم 19 أغسطس «مثل هذا اليوم» من عام 2014، وبوصف الشاعر التونسى عبدالوهاب الملوح: «رحل أنيق من دون أن يتلوث بأى شىء ورحل كبيرًا وهو يدافع عن شعبه «جريدة الأنباء الإلكترونية 19أغسطس 2014».
هو سميح محمد قاسم حسين أبومحمد آل حسين القاسم ولد فى 11 مايو - أيار عام 1939 فى الزرقاء الأردنية ودرس وعاش فى الرامة شمال فلسطين ثم فى الناصرة، ورفض الانخراط فى التجنيد العسكرى الإجبارى، الذى فرضته إسرائيل على دروز فلسطين، فكان أول شاب درزى يفعلها، ومثّل نموذجًا تبعه كثيرون من أبناء طائفته، وخاض نضاله السياسى ضد الاحتلال، وتم اعتقاله أكثر من مرة، وطرد من وظيفته وتعرّض للتهديد بالتصفية، ولا يرى القاسم فارقًا فى أن يولد فى فلسطين أو فى غيرها: أنا ابن هذه الأمة العربية من مضيق جبل طارق إلى مضيق عمان، تتوزع جذورى بين جزيرة العرب، حيث قدم جدى ليقاتل مع صلاح الدين الأيوبى ليستقر على سفح جبل حيدر، إلى سوريا ولبنان والأردن حيث يتوزع أقاربى «جريدة العرب - لندن - 24 أغسطس 2014».
والده كان ضابطًا أردنيًا فى قوات حرس الحدود، وحين ولد عاد به بالقطار إلى فلسطين، وأخذ يبكى فخاف الركّاب أن يسمع الطيارون الألمان بكاءه فيقصفوا القطار، فأراد بعض الرعاع أن يخنقوه، فدافع عنه والده بمسدسه، وفى سن التاسعة اندلعت حرب العام 1948، وأعلنت إسرائيل وجودها وأصيب العرب بالنكبة، فقصفت بلدته الرامة بالطائرات، فهرب مع أهله إلى الجبال، وبقوا أيامًا متوارين فى العراء، لتبدأ رحلته مع صراع الهوية ليعمل معلمًا فى المدارس وصحفيًا فى جريدة الاتحاد وعاملًا فى المنطقة الصناعية فى حيفا، ثم مفتشًا فى دائرة التنظيم المدنى فى الناصرة، ثم استقال احتجاجًا على مصادرة الأراضى العربية، تقلّب كثيرًا عبر سنوات عمره، وكان يرى كلّ مرة المشهد ذاته، لحظة النكبة، فكرّس ذلك فى شعره «جريدة العرب - 24 أغسطس 2014».
وكان حسب رأى الشاعر اللبنانى محمد على شمس الدين: «شاعر قريب من النفس جميل نقى شفاف أليف ساخر يعد من أبرز شعراء الغضب العربى كأمل دنقل، نزار قبانى، مظفر النواب، أحمد مطر فهو شاعر مختلط عجيب وشعره يتكون من وقائع ويوميات وتفاصيل أليفة وإخباريه لكنها على العموم دامية تنزف بلا انقطاع وساخرة وتضع الشىء وضده وجها لوجه «جريدة رأى اليوم - 21 أغسطس 2014».
مات فى نفس شهر موت رفيق أيامه الشاعر محمود درويش «8 أغسطس 2008»، فبكاه كثيرا وخاطبه: «تخليت عن وزر حزنى، ووزر حياتى وحملتنى وزر موتك، أنت تركت الحصان وحيدا، لماذا؟، وقال: «نفرح ونحزن، نهدأ ونغضب، وصديقان منذ الصبا، تقاسمنا رغيف الخبز معا، لعبنا معا، كتبنا الشعر فى السر والعلن معا، خفت عليه وخاف على».
فى 4 نوفمبر 1988 قادتنى المصادفة أنا وصديقى الراحل الكاتب الصحفى مجدى حسنين إلى لقائه مع درويش، أثناء انعقاد مؤتمر «الحفاظ على المقدسات الفلسطينية»، الذى نظمه اتحاد الفنانين العرب برئاسة الكاتب سعد الدين وهبة، وحضره ياسر عرفات، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية وقتها، والرئيس الفلسطينى فيما بعد، وكان هو ضيفا على المؤتمر، وسط حفاوة كبيرة.
كان فندق «شبرد» يستضيف المؤتمر، وكنا نجلس مع سميح الذى تعارفنا عليه، وفجأة أطل درويش، فرفع سميح يده مناديا: «تعال يا محمود»، فجاء، وكانت مفاجأة، استطعنا إلى تحويلها لجلسة صحفية بفضل سميح ورغم تبرم سريع لمحمود، وانضم إليها الشاعران الفلسطينيان أحمد دحبور وهارون هاشم الرشيد، والفنان كرم مطاوع، والكاتب يوسف القعيد، وكان لافتا أن سميح مازال مسكونا بدهشته منذ أن حطت قدماه أرض مطار القاهرة لأنه فى مدينة عربية خالصة، وقال لنا: «هذه أول مرة تحدث فى حياتى».
أثناء المؤتمر، عقد «سميح» و«درويش» أمسيتين، واحدة على مسرح الجلاء لهما فقط، والثانية على مسرح البالون، وفيها ألقى «درويش» بشجن وتأثر قصيدته المهداة إلى «سميح»: «أسميك نرجسة حول قلبى» وكان «سميح» يجلس بجواره على خشبة المسرح، عيناه صوب الأرض، ويهز رأسه وأحيانا جسده، ولاحظ الجمهور تأثره حين قال درويش: «اسميك نرجسة حول قلبى/لو كان قلبى معك/وأودعته خشب السنديان/لكنت قطعت الطريق بموت أقل»، ولما ذكره مجدى بحالته تلك، علق «آه محمود ابن.. بكانى».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة