هناك بحوث ومشاهدات كثيرة تشير إلى أن ثقة الجمهور فى الإعلام والإعلاميين تراجعت كثيرًا.. فقد فشل الإعلام فى إقناع الناخب البريطانى بأهمية الاستمرار فى الاتحاد الأوروبى، كما فشل الإعلام الأمريكى فى الإطاحة بترامب.. وهذا التراجع المثير فى الثقة بالإعلام هو ظاهرة عالمية تشمل الصحافة الورقية والإعلام الجديد ووسائل التواصل الاجتماعى، ولاشك فى خطوة النتائج المترتبة على انهيار ثقة الجمهور.. وأهمها خسارة قدرة الإعلام على نقل الأخبار والآراء، وإقناع الناس بمنتج معين أو مرشح رئاسى أو برلمانى، علاوة على ضياع دور الإعلام فى التنشئة الاجتماعية والسياسية.
وفى هذا السياق أتصور أن الجمهور المصرى لا يثق كثيرًا فى إعلامه، بدليل ضعف الإقبال على شراء الصحف، وضعف نسب المشاهدة لنشرات الأخبار والبرامج السياسية، وأتمنى أن تُجرى بحوث ميدانية مصرية على نطاق واسع للتحقق من صحة ذلك، وقناعتى أن أزمة تراجع الثقة فى الإعلام والصحافة لا تعنى نهاية الصحافة أو موت الإعلام، وإنما قد تقود إلى نهاية الأشكال الحالية المتعارف عليها فى الإعلام، وظهور أشكال ووظائف جديدة للصحافة والإعلام، تقوم على الإبداع والتجريب والتجديد، وتكون قادرة على الاستجابة للاحتياجات الإنسانية والمجتمعية لإنسان القرن الحادى والعشرين.
بحوث أمريكية تتبعية أكدت أن تراجع ثقة الأمريكيين فى الصحافة والإعلام ظهر منذ أكثر من عقدين، وهناك مؤشرات تؤكد زيادة معدلات انحسار هذه الثقة، ووجدت دراسة أمريكية حديثة أن غالبية الأمريكيين لا يثقون فيما يطلعون عليه من أخبار وآراء، وقال %6 فقط إن لديهم قدرًا كبيرًا من الثقة فى الصحافة، مقابل %52 يقولون إن لديهم بعض الثقة، بينما أشار %41 إلى أنهم لا يثقون فى الصحافة والإعلام، والمدهش أن نتائج هذه الدراسة مشابهة لنتائج دراسات أخرى حديثة، على سبيل المثال، وجدت مؤسسة غالوب فى سبتمبر 2015 أن %7 من الأمريكيين لديهم قدر كبير من الثقة فى وسائل الإعلام، و%33 لديهم قدر لا بأس به، و60 فى المائة، إما ليس لديهم كثيرًا جدًا من الثقة، أو لا شىء من الثقة على الإطلاق.
ومع ذلك، فإن الدراسة سألت عن الثقة فى المؤسسات المختلفة حتى نتمكن من تقييم العلاقة بين مدى ثقة الناس بشكل عام وثقتهم فى الصحافة والإعلام خصوصًا، حيث تبين أن ثقة الأمريكيين فى الصحافة منخفضة بالمقارنة مع غيرها من المؤسسات مثل الجيش، والمجتمع العلمى، والمحكمة العليا، الدين المنظم، والبنوك والمؤسسات المالية. ثقة الجمهور فى الصحافة هى مماثلة للثقة فى الكونغرس.
وأجريت فى بريطانيا دراسة مهمة عن ثقة الجمهور فى بى بى سى، حيث ظهر أن %53 من الجمهور لا يثق فى نوايا الحكومة نحو مستقبل هيئة الإذاعة البريطانية، ويرون أن الحكومة قد تهدد استقلال هذه المؤسسة العريقة، ومع ذلك تصدرت بى بى سى الاستطلاع كمصدر أكثر ثقة لبث «تقارير متوازنة وغير منحازة من القصص الإخبارية» فى التليفزيون والراديو.
وكشفت دراسة للمفوضية الأوروبية عن هوة كبرى تفصل الأوروبيين فى نظرتهم إلى وسائل الإعلام فى الاتحاد، حيث ظهر احترام وتقدير للصحافة والإعلام فى فنلندا والدنمارك وهولندا، بينما تواجه بالتنديد والشك جنوبًا لدى اليونانيين والفرنسيين والإسبان. وأشارت الدراسة التى أجراها معهد «تى إن إس اوبينيون» حول فى أكتوبر 2016 إلى اعتبار أكثرية بسيطة من مواطنى الاتحاد الأوروبى أن وسائل الإعلام فى كل من بلدانهم تنشر معلومات «جديرة بالثقة» «%53».
لكن أقل من نصفهم بقليل، وبنسبة %44، يرون العكس، فى تقارب مع نتيجة نشرت مؤخرا لاستطلاع لمؤسسة غالوب فى الولايات المتحدة كشف عن ثقة %32 فقط من الأمريكيين فى توفير وسائل الإعلام «معلومات بشكل كامل وصحيح ودقيق». ولخص المعهد الذى أجرى الاستطلاع أن «هذه النتائج تثبت أن الأوروبيين يرون استمرار الحاجة إلى الكثير من العمل لضمان استقلالية وسائل الإعلام، التى هى حجر الزاوية للديمقراطية فى الاتحاد الأوروبى.
فى هذا الإطار ارتفعت الثقة فى الصحافة والإعلام فى الدول الأوربية الأكثر ديمقراطية والأفضل فى معايير الديمقراطية والحكم الرشيد، فقد تصدرت ثلاث دول اسكندينافية كتلة البلدان الأكثر ثقة فى الإعلام وهى فنلندا «%88» والدنمارك «%77« والسويد «%77» ثم هولندا «%73». فى المقابل، أعرب اليونانيون «%73» والفرنسيون «%63» والإسبان «%59» عن الحذر إزاء مصداقية المعلومات التى تصلهم. وبدت هاتان الكتلتان على تناقض فى كل من أسئلة الاستطلاع الضخم تقريبا، الذى شارك فيه حوالى 28 ألف شخص «من مختلف الفئات الاجتماعية والديموغرافية» شاركوا فى الاستطلاع عبر مقابلات وجها لوجه فى منازلهم فى دول الاتحاد الأوروبى الـ28.
ولكن ما أسباب تراجع ثقة فى الصحافة والإعلام؟ الإجابة واعتمادا على نتائج بحوث ومسوح رأى تتلخص فى تدخل الحكومات أو الخوف من تدخلها فى المستقبل قد أضعف من مصداقية الإعلام، وأدى إلى تراجع ثقة الناس فيما يقدم لهم من أخبار ومعلومات وصور وآراء، لكن يظل الاحتكار فى ملكية وإدارة الإعلام هو السبب الأكثر أهمية فى ضياع الثقة فى الإعلام الأمريكى، حيث إن %90 من وسائل الإعلام الأمريكية تملكها ست شركات كبرى، مما أدى برأى الكثيرين إلى اختفاء الاستقلال فى التقارير والرأى، لأن هذه الشركات تسعى إلى تحقيق الأرباح بغض النظر عما تقدمة من تقارير وأخبار.
أما السبب الثالث فهو فوضى وأكاذيب وسائل التواصل الاجتماعى ومنصات الإعلام الجديد، والتى تنتشر فيها كثير من الأخبار المزورة والتقارير والأحاديث بل والأفلام الملعوب فيها بشكل يشوه الحقائق. وحطمت هذه الفوضى الثقة فى الإعلام ككل وليس الإعلام الجديد فقط، أخيرا هناك من يعتقد أن الخبرة السلبية للجمهور فى تعامله مع بعض التغطيات الإخبارية دفعت قطاعات واسعة من الجمهور للكفر بمصداقية الإعلام ككل، فعندما يقرأ مواطن أخبارًا معينة ثم يكتشف أنها مزورة فإنه يتخذ موقفًا سلبيًا من صدقية الإعلام والإعلاميين، وقد يتعزز هذا الموقف ويصبح اتجاهًا ثابتًا من الصعب تغييره.
مهما كانت الأسباب فإننى أعتقد أن تراجع ثقة الجمهور فى الإعلام قد تكون ظاهرة إيجابية من زاوية أن قطاعات أوسع من الجمهور فى العالم بدأت تفكر بشكل نقدى فيما يقدم لها فى الإعلام، فليس كل ما يقدمه الإعلام صحيحًا بالضرورة.. وهناك أخبار دقيقة وأخبار وتقارير مزيفة، تمامًا كما يحدث فى الحياة الطبيعية، حيث يلتقى الفرد بأشخاص ومواقف صحيحة أو مزيفة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة