منذ عصر نبى الله داود الذى ارتبط اسمه بالمزامير، قُدر للموسيقى أن تلعب دورًا يتجاوز تسميتها بغذاء الروح، لكى تصبح ركنًا فى الإيمان أو سندًا فى الصلاة المسيحية، خاصة إذا اقترن الحديث بالمساحة التى تحتلها الموسيقى المسيحية فى تاريخ الكنائس أو فى علاقة الكنيسة برعاياها. وتحتل الموسيقى موقعًا مهمًا فى الصلاة والعبادة بالكنائس، وتمثل أحد الجوانب الروحانية فى التواصل مع الله، وفى التقريب بين الناس، يعرف فضلها وقيمتها قساوسة استطاعوا أن يطوروها، وأن يجعلوها ترانيم يتواصلون بها مع الخالق، ويعززون بها الجوانب الروحانية لدى من يستمعون لها ويرددونها. فى الملف التالى نتحدث مع كهنة جمعوا بين زى الرهبنة وعشق الموسيقى، وجعلوا منها أداة للصلاة والتواصل مع الرب.
ففى القرن الرابع بعد انتهاء عصر اضطهاد المسيحيين، أسس آباء الكنيسة نظامًا للطقوس الدينية المؤلفة من الأناشيد، لترنيمها فى المناسبات المختلفة طوال السنة، وتأثروا بالشعر الغنائى فى العهد القديم أو المزامير، ثم أخذت كل كنيسة تضع موسيقى وأناشيد خاصة بها، وهذب البابا غريغورى الأول الموسيقى اللاتينية الكنسية، فأنتج الترانيم الغريغورية، وهى ألحان فى الكتاب المقدس للموسيقى الكنسية اللاتينية، وتعتبر فنًا موسيقيًا غنائيًا جادًا، ذا سير لحنى غير مرافق بآلات موسيقية، ويرتكز على ثمانية سلالم موسيقية.
الكنيسة الأرثوذكسية.. القس موسى رشدى ينشر الإيمان بالألحان
ورغم أن الكنيسة الأرثوذكسية كنيسة تقليدية، تحرم استخدام الآلات الموسيقية فى صلواتها، فإنها واكبت عصر الترانيم المسيحية، وخرج من بين كهنتها من استطاعوا منافسة الترنيمة الإنجيلية ذائعة الصيت، بفيديو كليب للترانيم القبطية الجديدة.
القس موسى رشدى
يقول القس موسى رشدى، الذى كان يزور مصر قادمًا من المملكة المتحدة حيث يخدم هناك بإحدى كنائسها: «كنت أصلى فى كنيسة مار مينا بالفيوم فى طفولتى، وكنت أزور الدير باستمرار، ووجدت نفسى منجذبًا للكنيسة ولإحساسى الروحى والأمان بها، قبل أن أخرج للصراعات والعمل والنزاعات، وتطور حبى للكنيسة إلى رغبة فى البقاء فيها أطول قدر ممكن وخدمتها».
وأضاف: «حين كنت صغيرًا رسمونى «عينونى» شماسًا فى الكنيسة فى سن الرابعة عشرة، وقبل ترسيمى كان لابد أن أحفظ قدرًا كافيًا من الألحان يؤهلنى للحصول على هذه الرتبة الكنسية».
ويرى الكاهن القبطى الملقب باللحن الروحانى، أن الموسيقى جزء من تكوين الخليقة، وهى ضمن الطرق التى يتحدث بها الله ليخاطب مشاعر الإنسان، قائلًا: «فى أفريقيا وبسبب قلة الضوضاء تستمع بوضوح إلى أصوات الطبيعة المختلفة كصوت الشلالات، وقبل أن تعرف الشعوب طريقها إلى الله ظلت الموسيقى موجودة كموكب الملك وموسيقاه».
وأضاف: «حين تحدث الله إلى موسى ظهرت بعدها نصوص تتلى ملحنة، لكى يتواصل الله مع البشرية جمعاء، حتى وإن كان الفرد لا يعرف العزف، وبدأ الاعتماد على الحنجرة البشرية التى رددت نصوصًا إلهية».
يعود «رشدى» بالتاريخ إلى الوراء، ويربط بين عصر الفراعنة وعصر دخول المسيحية إلى مصر، فيؤكد: «كان هناك فى عصر الفراعنة ما يسمى بكاهن المعبد، حيث كان يدخل لتلاوة نصوص فرعونية بلغتين، الهيرطيقية والديموطيقية، بطريقة ملحنة، مما يمنح الإنسان فرصة للتأمل أثناء سماع نص معين، ثم بدأ انتشار الألحان فى الكنيسة».
ومنع القديس اكليمندوس استخدام الأورغن فى الكنيسة، وكذلك الآلات الموسيقية، ليمنح الحنجرة فرصة لنقل الإحساس البشرى، يقول «رشدى»: «الحنجرة البشرية أقوى من صوت الآلات وأصدق، لأن صوت الآلة لا يعكس الشعور بشكل مباشر».
ويتابع: «مصر تحولت للمسيحية فى القرن الأول الميلادى، ولم يهدم الأقباط المعابد الفرعونية، بل حدث نوع من الاستبدال، وبدأت الألحان تقال بشكل مختلف، وتتلى الألحان لخالق السموات بدلًا من الفرعون».
يشرح القس موسى رشدى فلسفة الكنيسة فى الألحان، مؤكدًا أن اللحن يجعل الإيمان يصل لكل الناس، حتى وإن لم يستوعبوا أبعاد المعنى اللاهوتى، فيحفظونه حتى يسمح له الوقت باستيعابه وفهمه.
ويرى أن الكنيسة فرقت بين أنواع الألحان، فهناك لحن يقال أثناء دخول البطريرك للكنيسة، ولحن لأسبوع الآلام، ولحن يقال عند دخول الكنيسة، ليبعث النشاط فى النفس كى يدخل الشخص فى صلب العبادة.
ويؤكد أن الألحان تطورت فى المناسبات والأعياد، وأصبح لكل مناسبة أو عيد لحن خاص بها، وبما أن الهدف من أى عبادة هو إيصال الناس بالله، فلا تقتصر الألحان على الوجود فى الكنيسة، بل يمكن الاستماع إليها فى البيت.
ويقول «رشدى»: مرت الكنيسة بمراحل مختلفة فى التاريخ، توقف فى بعضها تطور اللحن، ولكن من الممكن إضافة ألحان أخرى حسبما يقرر المجمع المقدس للكنيسة، كما أن هناك تراثًا قويًا وكبيرًا بدأ استخدامه فى المناسبات المختلفة، فتظل السنة كلها كفكر وعقيدة ولحن، وهو ما تتسم به الكنائس التقليدية، كى يكبر الأطفال فى محبة ومخافة الله.
وأضاف أن الفضل فى الطفرة التى حدثت بالترانيم فى العصر الحديث يعود للبابا شنودة، حيث كان أحد الذين صنعوا جزءًا كبيرًا من تاريخ الكنيسة، وكان متميزًا فى كتابة الشعر، الذى أثر فى الشعب القبطى والفكر المسيحى، ومن قبله كتب الأرشدياكون حبيب جرجس الكثير من الترانيم، مثل «قلبى الخفاق أضحى مضجعك، فى حنايا الصدر أخفى موضعك، قد تركت الكونَ فى ضوضائه، واعتزلت الكلَ كى أحيا معك»
وعن تصوير الترانيم كفيديو كليب يقول «رشدى»: «الأمر لم يكن شائعًا فى الكنيسة، ولكننى لجأت إليه إيمانًا بتطور الزمن، فليس هناك ما يمنع من أن نصل الفكرة باستخدام ثورة التكنولوجيا، ولكن هناك صعوبات فى تنفيذ أى فكرة جديدة»، مؤكدًا أن الفكرة لم تلق قبولًا حين بدأ تنفيذها، ولكن مع الوقت بدأ تقبلها، وأنه كان يحظى بتشجيع الأنبا بيشوى، مطران دمياط، والأنبا أنطونى، أسقف أيرلندا، الذى يخدم تحت رعايته.
يجمع «رشدى» بين الكهنوت كقس وموهبة الترنيم، لكنه لا يرى تعارضًا بينهما، ويقول: «فكرت أن أجعل الشباب الذين يقضون أوقاتًا طويلة فى مشاهدة الفيديو كليب وغيرها من الأشياء غير المفيدة روحيًا يستمتعون بالترانيم، فأنتجت أربعة ألبومات».
وأضاف: «الترانيم تشعرنى أنى قائد جيش، وأن كل حواسى تعمل تحت أمرى لتعبد الله، فحواسى هى من تصلنى بالعالم، والألحان مليئة بالتسامح والمحبة».
فى الكنيسة الكاثوليكية .. الأب بطرس دانيال رجل الفنون
إذا كانت الموسيقى محرمة فى القداس القبطى، فإنها محببة فى القداس الكاثوليكى.
ويجمع الأب بطرس دانيال، رئيس المركز الكاثوليكى للسينما، أحد الرهبان الفرنسيسكان فى مصر، بين ملابسه الرهبانية ومحبته الكبيرة للفنون، كالموسيقى والسينما، تلك المواهب التى ترجمها إلى أدوار اجتماعية مكنته من الإشراف على المركز الكاثوليكى للسينما، الذى يقيم مهرجانًا سنويًا شهيرًا.
يقول «دانيال» إن الأناشيد الروحية والترانيم والألحان لها دور منذ بداية المسيحية، بل ومن قبل المسيحية، فمنذ عصر النبى داود بنيت المزامير على الألحان، وكانوا يستخدمون الآلات الوترية التى تشبه «الهارب»، بالإضافة إلى الدفوف والرق، وبعد ذلك بدأت الكنيسة تستخدم هذه الآلات، وتضيف إليها آلات أخرى.
يشير «دانيال» إلى أن نوع الآلات يرجع إلى طائفة الكنيسة وطقوسها، ففى الشرق هناك الطقس الشرقى الذى يعتمد على الدف والناقوس، أما الكنيسة القبطية فلا تستخدم الأورج والبيانو داخلها، وفى الطقس اللاتينى الذى تتبعه الكنيسة الكاثوليكية تستخدم آلات موسيقية مختلفة، مثل الأورج والأورغن والجيتار والكمان، والطقس اللاتينى يتسم بتنوع الأصوات حسب قوة الكورال وعدده وكفاءته.
يروى «دانيال» قصة الكورال فى كنيسته، فيقول: «فى كنيستى كورال كبير يضم 100 مغنٍ، أعمارهم تتراوح بين 5 و60 سنة، يرنمون بخمسة أصوات ونغمات مختلفة، أما الطقس القبطى فيرنم بالصوت الواحد عبر هزات معينة، والطقس اللاتينى يعتمد على تعدد الألحان والتوزيعات، مما يكسب الصلاة أجواء أخرى».
يستشهد الأب دانيال بالقديس أوغسطينس من القرن الرابع الذى يقول «من يرنم يصلى مرتين»، سواء فى المسيحية أو الإسلام أو أى دين، فمن يقرأ قراءة عادية يختلف عمن يقرأ بالتلحين والتجويد، وتفرق فى نفسية القارئ والمتلقى معًا.
يعود «دانيال» إلى نشأته التى جعلت قلبه يهفو للموسيقى، فيقول: كنت ألعب الموسيقى منذ طفولتى، ففى مدرسة سانت كاترين بالإسكندرية لعبت ألحان النشيد الوطنى على الإكسيلفيون والأكورديون ، وحين ترهبنت رسميًا درست النوتة الموسيقية، وتطورت موسيقيًا من العزف السماعى لأغانى أم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم إلى دراسة الموسيقى باستفاضة، مما أسهم فى تكوينى وحبى للفن بشكل عام، كالموسيقى والسينما.
يضيف: من يسمع الكونشيرتو فى الكنيسة من الفنانين يدرك اتصالى وانفتاحى على باقى الفنون، وهو ما ساعدنى بالفعل فى حياتى الروحية، فكلما سمعت ترانيم جميلة ازدادت علاقتى بالصلاة.
ويتابع: نقيم كرهبان فرنسيسكان العديد من الحفلات التى يحضرها المسلمون والمسيحيون، فالمركز الكاثوليكى يقدم أغنيات غير دينية، ويؤكد أن الموسيقى ليست حرامًا، لأنها عطية من الله الذى حببنا فيها، مضيفًا: فى الخارج تستخدم الموسيقى للعلاج النفسى، وتسمعها الأمهات للأجنة فى بطونهن لتجنب اكتئاب الحمل.
ويصف «دانيال» من يحرمون الموسيقى بالمساكين، قائلًا: «إذا عرفوا قيمة الموسيقى وجمالها سيعرفون قدر ما فقدوه من جمال، فالموسيقى بطبيعتها تجعل عملية قبول الآخر أسهل، حتى أن العزف يتم من خلال آلات متنوعة تخلق بينها الهارمونى الموسيقى، وفى كل أوركسترا قيمة لكل آلة، وفى الحياة هناك قيمة لكل شخص ولونه ومعتقده، لأننا نكمل بعضنا البعض، ولا أفضلية لأحد».
وأضاف: «سافرنا سويسرا وشاركنا الأوركسترا السويسرى فى الترنيم، وفى كندا عزفنا اثنين كونشيرتو، وسنويًا نحيى ذكرى الحرب العالمية الثانية فى العلمين، بحضور سفراء الدول الأجنبية الذين انبهروا بما نقدمه من عروض، وقدمنا كونشيرتو أيضًا فى السفارة الإيطالية.. نحن نحاول توطيد العلاقات الخارجية من خلال الموسيقى».
الكنيسة الإنجيلية: مصنع إنتاج نجوم الترانيم
قد ينطبق الوصف «كهنة موسيقيون» على جميع الكنائس فى مصر، إلا الكنيسة الإنجيلية، التى يمكن أن تكون كنيسة للموسيقيين وليس للكهنة، فالكنيسة غير التقليدية ليس لديها كهنوت كالكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية.
ماهر فايز
ونقلت الكنيسة الإنجيلية منذ دخولها مصر فى القرن التاسع عشر، عبر البعثات التبشيرية، العمل الرعوى فى الكنائس نقلة اجتماعية مهمة، إذ وسعت من نطاق عمل الكنائس لتدخل فى مجالى التعليم والصحة، وقد كان لاهتمام الكنيسة الكبير بالترانيم المسيحية دور فى نقل هذا الاهتمام للكنيسة الأرثوذكسية التقليدية التى دخلت هى الأخرى عصر الترنيمة المسيحية المصورة.
«يارب بارك بلادى» الترنيمة الأشهر التى ربطت الكنيسة الإنجيلية بميدان التحرير، خاصة أن الأخيرة كانت قد خصصت كنيسة قصر الدوبارة التابعة لها كمستشفى ميدانى للثوار، لتنتقل الكنيسة من الترانيم الروحية المسيحية إلى تلك النوعية من الترانيم التى تصلح لجميع المؤمنين، بل وتلامس الواقع السياسى.
أسهمت الثورة الكبيرة التى أحدثتها الفضائيات فى انتشار الترانيم المسيحية بشكل لم يكن يتخيله صانعو هذه الترانيم من قبل، فبعد تجارب بدائية مع سوق الكاسيت، الذى عمل هو الآخر على نشر الترانيم فى الأوساط المسيحية، انطلقت الترنيمة الإنجيلية إلى عصر السماوات المفتوحة عبر قناة «سات سفن» المملوكة للكنيسة الإنجيلية، وصنعت الكنيسة من خلال القنوات الفضائية ذات الإنتاج الضخم نجومًا فى عالم الترانيم المسيحية، أبرزهم ماهر فايز، الذى صار نجمًا بازغًا فى الفضائيات المسيحية، يسافر إلى الخارج ليرنم بين أوساط أقباط المهجر، وتستضيفه الكنيسة فى احتفالاتها الرسمية.
استطاع ماهر فايز أن ينقل الترنيمة المسيحية إلى مساحات أخرى تلقى رواجًا لدى الجمهور العام، مساحات يتجاور فيها القيمى مع الإنسانى ويلامس الواقع السياسى، الأمر الذى دفع البعض لتصنيفه ضمن الغناء الصوفى، وصاحب ظهوره انتشار فرق الترانيم المسيحية، مثل فريق الكاروز والتسبحة، وغيرهما، حتى أن فريقًا للترانيم طور من شكل الترنيمة التقليدية، ومزجها بموسيقى صعيدية ليصبح القالب أقرب إلى ليالى المنشدين الصوفيين، كالمرنم صموئيل فاروق، الذى ذاع صيته فى الصعيد وانتقل إلى القاهرة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة