يغط العالم العربى فى نوم عميق، وأصبحت دوله أسيرة للأزمات السياسية، واحدة تنغمس فى صراعات داخلية، وأخرى تحيك المؤامرات لجيرانها، وبينما تقسّم بلادهم أمام أعينهم واحدة تلو الأخرى، تسعى قوى اقليمية أخرى للعبث والتنسيق على حساب العرب مستغلة بذلك أوضاع المنطقة المتأزمة.
فبينما غاب العرب عن محاولات تقسيم الجسد العربى فى العراق، جمعت الأزمات والمصالح المشتركة الدولة الشيعية وتركيا السنية على طاولة واحدة، وفتحت الطريق أمام كبار رجال الأمن الإيرانيين لزيارة تركيا، ففى زيارة نادرة منذ الثورة الإيرانية 1979، قام رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية اللواء محمد باقرى، الثلاثاء الماضى بزيارة إلى تركيا يرافقه قائد قوات الحرس الثورى الإيرانى الجهاز الأمنى الأقوى فى إيران، وطرحت توقيت الزيارة العديد من التساؤلات وأثار الكثير من علامات استفهام على الساحة السياسية.
اللواء باقرى فى تركيا
ومن خلال السيرة الذاتية لأكبر مسئول أمنى رفيع بإيران وربطها بالأزمات التى تعصف بالمنطقة، يمكن فهم أسباب الزيارة والإجابة على تساؤلات المراقبين، فاللواء باقرى فى إيران قبل توليه منصب قيادة القوات المسلحة، كانت له تجربة طويلة فى التعامل الأمنى مع المنظمات الكردية المسلحة من خلال عمله فى أجهزة المخابرات، وانضم للحرس الثورى بعد اندلاع التمرد العسكرى الكردى شمال غربى البلاد عقب قيام الثورة الإيرانية عام 1979، وكان ممن درسوا ووافقوا على عمليات الحرس الثورى الذى نفذها على عمق 10 كلم داخل الأراضى العراقية فى التسعينيات ضد قواعد الحزب الديمقراطى الكردستانى الإيرانى وحزب كوملة الكردى الواقعة على الجبال بين إيران والعراق، بحكم عمله فى الاستخبارات.
إذن يمكن التأكيد على أن أحد الأسباب التى قادت باقرى لأول مرة إلى تركيا هى الملف الكردى الذى أصبح يشكل مصدر ازعاج لكلا البلدين، وبعبارة أخرى أن استفتاء الانفصال الكردى فى العراق ساق الرجل إلى تركيا وملف الحدود مع تركيا، وملفات أخرى متعلقة بأزمات المنطقة، وفى مقدمتها انقاذ إمارة الإرهاب "قطر"، بالإضافة أخرى تتقاطع فيها رؤى البلدين وعلى رأسها الملف السورى والعراقى.
رعب استفتاء الانفصال الكردستانى فى العراق
رغم التوترات التى شهدتها العلاقات التركية الايرانية الفترات الماضية وصلت إلى حد السجال الإعلامى والتراشق الحاد، إلا أن العلاقات الاقتصادية والجوار الجغرافى سيظل دائما العامل على التهدئة بين البلدين، الذين يتلاقيان فى ملفات ويفترقان فى أخرى، وتأتى فى مقدمة الملفات التى تلاقت فيها رؤى وأهداف البلدين هو رفض تقسيم العراق عبر استفتاء الانفصال الكردستانى.
يشكل استفتاء كردستان العراق المقرر إجراؤه فى 25 من سبتمبر المقبل، منعطفا خطيرا ستكون له تداعياته داخل البلدين المجاورتين للعراق والتى يشكل العنصر الكردى داخلها إحدى قومياتها، ففى إيران تشكل نحو 10% من السكان بحسب احصائيات غير رسمية يعيش معظمهم في إقليم كردستان والأقاليم الشمالية الغربية الأخرى على الحدود مع العراق فى محافظات كردستان وكرمانشاه وآذربيجان الغربية وايلام، وتراودهم طموح الانفصال قبل الثورة الايرانية، نتيجة لسياسات النظام ضدهم وحرمانهم من التعلم بلغتهم الام، وهو ما شجعهم على القيام بعمليات مسلحة ضد قوات الأمن الإيرانية فى الفترات الأخيرة.
أما فى تركيا يمثل الأكراد حوالى 15 إلى 20% من السكان، عاشوا صراعًا متأصلًا مع الدولة التركية بعد أن وضع أتاتورك مبادئ عامة جعل فيها القومية التركية القومية السائدة فى تركيا، وعاملت السلطات التركية الأكراد معاملة قاسية، كما حظر استخدام اللغة الكردية، وقوبلت مساعى حزب العمال الكردى مع أكراد سوريا لتشكيل كيان للأكراد ودولة على الحدود التركية السورية بالعنف الشديد، فالنظام التركى يعتبر أن قيام أى كيانات كردية على حدوده خط أحمر، وجاءت عمليات "درع الفرات" التى شنها النظام التركى على الحدود السورية التركية فى مدينة جرابلس فى شمال سوريا لقمع أى تحركات كردية، فضلا عن رغبة تركيا فى انشاء جدار على الحدود الشرقية مع إيران يبلغ طوله 70 كلمن كلها مساعى تأتى فى إطار استراتيجية الرئيس اردوغان والتى تستهدف تطويق العمال الكردستانى.
ووفقا لهذه المعطيات فإن تنامى الطموح الكردى فى المنطقة أثار قلق الدوائر السياسية فى البلدين، ورفضا استفتاء انفصال أكراد العراق، من منطلق أن طموحات الانفصال الكردى فى العراق ستكون المحرك والدافع فى عودة النزعة الانفصالية لدى أكراد إيران أو أن تشجع اكراد سوريا وتركيا على إقامة كيان على الحدود السورية التركية، على نحو ما صرح اللواء باقرى، عقب عودته من تركيا، "أن وجهات نظر البلدان مشتركة حيال استفتاء الاستقلال فى إقليم كردستان العراق، وأن تركيا وإيران تؤكدان أن الاستفتاء غير ممكن ويجب أن لا يحدث.. وأن هذا الاستفتاء لو جرى سيشكل اساسا لبدء التوتر والصراع فى داخل العراق والتي ستطال تداعياته دول الجوار".
لكن غياب العرب كان اللافت للأنظار على هذه الطاولة، ويعزى مراقبون ذلك إلى أن انشغالهم فى مؤامرة قطر جعلهم يبتعدون قليلا دون أن يشعرون، حيث أخلوا الساحة للدولا أخرى صغيرة، لديها طموحات فى لعب دورا أكبر فى المنطقة، لكن يشدد المراقبون أن هذا الدور سيكون لحظى، فالعرب لايزالوا قادرين على الاستحواذ مجددا على الساحة وإفشال مؤامرات الدوحة.
اردوغان فى قطر
انقاذ إمارة الإرهاب "قطر"
إنقاذ أمير الإرهاب القطرى أيضا كانت إحدى الملفات التى تتفق فيها البلدان منذ بداية الأزمة الخليجية 5 يونيو الماضى، فسباق مستعر انطلق بين البلدين على حصر غنائم الأزمة، إيران سعت للتغلغل وإيجاد موطئ قدم لها فى الخليج عبر تواجد عناصرها من الحرس الثورى فى قطر لحماية الأمير تميم، بالإضافة إلى سد عجز الأسواق القطرية الذى تعانى منه عبر إرسال مئات الأطنان من المواد الغذائية بعد أن أغلقت دول الرباعى العربى منافذها أمام الناقلات القطرية.
وبنفس الأسلوب مع اختلاف الأهداف، حاولت الداعم الثانى للإرهاب فى المنطقة الدولة التركية لإنقاذ الدوحة من انتفاضة عارمة، من خلال حماية عرش تميم عبر إرسال الآلاف من القوات التركية بمعدات ثقيلة فى قاعدتها، ونشرها فى شوارع الدوحة للحيلولة دون وقوع تظاهرات شعبية ضد تميم إثر تصاعد الاستياء الشعبى من أسرة آل ثانى، التى علقت بدورها الأعلام التركية وأجبرت القطريين على وضع صور أردوغان على منازلهم والمؤسسات الحيوية.
وبحسب مصادر، قامت كل من أنقرة وطهران بالتنسيق على أعلى المستويات لإنقاذ إمارة الإرهاب، وقالت إن أردوغان عرض استراتيجية بلاده فى إيواء العناصر الإرهابية الموجودة بالدوحة حال تزايد الضغوط على الأخيرة، فيما عرضت طهران أساليبها فى انقاذ الإمارة الصغيرة، وأكدت على أن زيارة الرئيس التركى أيضا إلى إيران الشهر المقبل تأتى فى إطار تعزيز العلاقات وبحث المساعى الكردية المزعجة للطرفين.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة