عمر بن الخطاب يعطل حد السرقة و"سهم المؤلفة قلوبهم" فى الزكاة
"ابن تيمية" يجيز الصمت على شرب الخمر لأنها "تصد عن قتل النفس"
الصحابة لا يلتزمون بالنص القرآنى فى قضية "العَول".. وابن عباس يرفض
الفقهاء يساوون بين النساء والرجال فى مسألة الإخوة لأم دون نص قرآنى
لماذا قدم الفقهاء الدَّين على الوصية فى الميراث على عكس نص القرآن؟
أبو بكر يمنع ميراث فاطمة إعمالا لسلطته كولى أمر وانتصارا لحديث على آية
آيات الميراث نزلت فى مناسبة.. وكانت بداية تدرج تشريعى لإصلاح عادات الجاهلية
"يوصيكم الله" و"يستفتونك" فى آيات المواريث هل يحتملان تقييدا زمنيا للحكم؟
السيدة زينب ابنة الرسول ظلت فى عصمة "أبى العاص بن الربيع" رغم شركه
الآية 221 من سورة البقرة تمنع الزواج بالمشركين ولا تخص أهل الكتاب
الفقهاء يلوون عنق النص ويفسرون كلمة "المشرك" بمعنيين فى آية واحدة
الآية 5 بسورة المائدة تبيح الزواج بغير المسلم ضمنا وتحتمل الإباحة تصريحا
الفقهاء اختزلوا الزواج فى الجنس ثم قالوا "وطء المسلمة فيه غضاضة للإسلام"
الإمام محمد عبده يشهد لفقهاء تونس.. وهم أنفسهم يقرون قوانين المرأة
محمد عبده: "ما يجرى عليه مسلمو الزيتونة خير مما عليه أهل الأزهر"
فقه الواقع يعطل آيات الرق والحرب والربا.. فلماذا الزواج والمساواة فى الميراث؟
الفقه ابتدع "حد الرجم" مخالفا لنص القرآن ومستندا لآية غير موجودة
"حد الردة" من اختراعات الفقهاء.. يخالف القرآن والسنة وينكره شيخ الأزهر
الإسلام يقر بحق الرئيس "ولى الأمر" والبرلمان "أهل الحل والعقد" فى التشريع
اقتراح "السيسى" بتقييد الطلاق الشفوى رفضه الأزهر وتطبقه تونس منذ 61 سنة
بينما كان عمر بن الخطاب فى مجلسه، دخل عليه نفر من الناس مختلفين فى مسألة ميراث، ماتت زوجة وتركت زوجا وأختين، وبحسب النص القرآنى فى أنصبة المواريث، يختص الزوج بالنصف، ولكل واحدة من الأختين الثلث، فإذا بدأتَ بحصة الزوج لم يبق للأختين ما يكفى نصيبيهما، وإن بدأت بالأختين لن يتبقى ما يفى بحق الزوج، كانت المسألة معضلة كبيرة لأمير المؤمنين وصحبه، خاصة أنها طارئة ولم ترد فى عهدى الرسول وأبى بكر الصديق، ولا يتوفر بشأنها نص قرآنى أو نبوى.
المسألة السابقة ليست فريدة فى قضية المواريث، يمكنك الوقوع على عشرات النماذج والأماثيل، منها أنه لو مات رجل وترك ثلاث بنات وزوجة، وكان والداه على قيد الحياة، فالنص القرآنى يقسّم تركته حسابيا على هذا النحو: لبناته الثلاث ثلثا التركة (فإن كُنّ نساءً فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك)، والزوجة لها ثُمن التركة (فلهن الثُمن ممّا تركتم)، والوالدان ثلث التركة (ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك)، أى أنك كى تُقسّم تركة هذا الرجل التى تشتمل على ثلاثة أثلاث، تحتاج إلى ثلاثة أثلاث وثُمن، أو بتقريب رقمى، فإذا كانت تركته 100 ألف جنيه، فحتى تفى بأنصبة الورثة الشرعيين فإنك تحتاج إلى 112 ألفا و500 جنيه.
هذه المسألة يسميها الفقهاء وعلماء المواريث "العَوْل"، أى زيادة فروض الورثة عن حجم التركة، وهو ما لا يستقيم معه إعمال النص القرآنى إعمالا واضحا بظاهره وقسمته المنصوص عليها، ويحتاج لتدخل يوازن بين النص والواقع، بما ينشئ فى جوهر الأمر نصا تشريعيا جديدا، بشريا أكثر من كونه إلهيا، ويمثل استجابة لمقتضيات الراهن وتعقيداته، وهذا جوهر التشريع الإسلامى فى كل قضايا المعاملات، ينحصر التوقيف فى العقائد والعبادات، وما دون ذلك يكتسب قدرا من المرونة والتغير وفق فقه الواقع ومقاصد الشارع.
السبسى ينتصر للمرأة.. والتونسيون ينتقدون "خطاب الأزهر"
ظهيرة الأحد 13 أغسطس، أثار الرئيس التونسى الباجى قائد السبسى حالة من الجدل، بإعلانه فى خطاب بمناسبة الاحتفال بالعيد الوطنى للمرأة، سعيه لاتخاذ خطوات تشريعية للمساواة فى الميراث بين الرجال والنساء، ومراجعة المرسوم 73 المنظم لزواج التونسيات من أجانب، سعيا للسماح بزواجهن من غير المسلمين، وهو ما أيده ديوان الإفتاء التونسى وشيخه عثمان بطيخ فى بيان رسمى، جاء فيه: "مقترحات السبسى تدعم مكانة المرأة، وتضمن وتُفعّل مبدأ المساواة الذى نادى به الدين الإسلامى".
خطوة "السبسى" الأخيرة لم تكن بعيدة عن توجه منهجى لديه لإدخال تحسينات على التشريعات المتعلقة بحقوق المرأة فى البلاد، ففى خطابه فى المناسبة نفسها قبل سنتين، أكد "السبسى" تساوى المرأة مع الرجل فى ولايتها على أولادها القُصّر، وانتقد إجبار القاصرات على ارتداء الحجاب، موجها باتخاذ خطوات تشريعية نحو إنهاء حالة الإجبار تلك، بما تمثله من انتهاك مباشر للطفولة.
حديث الرئيس التونسى الأخير عن المساواة فى الميراث وزواج المسلمة من غير المسلم، واجه اعتراضات واسعة من أفراد ومؤسسات دينية ذات صبغة محافظة، وإذا ركزنا على السياق المصرى، فقد تواترت تصريحات من شيوخ وأكاديميين أزهريين، وأعضاء بمجمع البحوث الإسلامية، وصولا إلى وكيل الأزهر عباس شومان، ترفض المقترحين وتهاجم التوجه التونسى.
لم يقدم وكيل الأزهر، فى بيان نشره عبر صفحته الرسمية على "فيس بوك"، تأصيلا واضحا من القرآن والسنة لاعتراضه، فقط رفض المقترحين، قال عن المساواة فى الميراث إنها "دعوة تتصادم مع الشريعة الإسلامية"، وفيما يخص زواج المسلمة من غير المسلم قدم تبريرا خطابيا، بقوله: "دعوات إباحة زواج المسلمة من غير المسلم ليست فى مصلحة المرأة، الغالب فى هذا الزواج فقد المودة والسكن، إذ لا يؤمن غير المسلم بدين المسلمة، وبالتالى لا يُعتقد تمكين زوجته من أداء شعائر دينها، فتبغضه ولا تستقر الزوجية بينهما".
على الجانب الآخر، لم يفوّت التونسيون الفرصة للتعقيب على رد الأزهر، فقال برهان بسيّس، القيادى فى حزب "نداء تونس" الحاكم، فى بيان صادر عنه: "نقاشنا الداخلى يظل ظاهرة صحية ومطلوبة، مهما بلغ حجم اختلافنا تجاه قضايا مثيرة للجدل"، رافضا تدخل الأفراد أو المؤسسات غير التونسية فى الأمر، إذ إن على التونسيين بحسب قوله "تحصين أجواء الجدل الفكرى والثقافى من أى تشويش خارجى فقط، عن طريق جعلها رفيعة المستوى راقية المضامين، لا تقع مهما بلغ الاختلاف فيها فى مصيدة التكفير المتبادل، محافظون يُكفّرون غيرهم دينيًّا، وحداثيون يُكفّرون غيرهم مدنيًّا".
لم تتوقف التداعيات على الخطاب المحافظ الذى استخدمه "بسيّس"، بعض المشتبكين مع الأمر اتخذوا منحى أكثر حدّة وهجوما، منهم رجل الأعمال والقيادى بالحزب الحاكم، سمير العبدلى، الذى قال فى تدوينة عبر صفحته على "فيس بوك": "ليس للأزهر، وعلمائه ومناهجه، وكتب الفقه فيه، التى تبيح أكل لحوم البشر والمرأة والصبى دون شيّها، وتجيز للإنسان قطع جزء من جسده وأكله إذا اضطر، أن تلقن تونس درسا فى آليات تطوير الأحكام الشرعية والمجتمعية".
الحبيب بورقيبة رائد التنوير التونسى.. انظرى إلى الدنيا من غير حجاب
قبل إعلان الجمهورية التونسية، وبعد أربعة شهور فقط من توقيع مرسوم الاستقلال، أصدر الحبيب بورقيبة، رئيس الحكومة التونسية آنذاك ورئيس الجمهورية لاحقا، مجلة الأحوال الشخصية، فى أغسطس 1956، متضمنة عددا من الإصلاحات فيما يخص أوضاع المرأة.
تضمنت المجلة السماح بالتبنى، ومنع تعدد الزوجات، وإلغاء الزواج العرفى، ومنع إكراه الفتاة على الزواج من جانب وليّها، ورفع سن زواج الذكور لـ20 سنة والإناث لـ17، وإلغاء الطلاق الشفهى وجعل المسألة اختصاصا ولائيا للقضاء، وهذه النقطة تحديدا كانت حاضرة فى مصر خلال الفترة الأخيرة، بمطالبة الرئيس السيسى فى احتفال حضره شيخ الأزهر فى يناير الماضى، بتقييد الطلاق الشفوى، وهو ما عارضه شيوخ المؤسسة رافضين تقييد شفوية الطلاق بمرجعية قانونية أو قضائية، رغم أن تونس تطبقه منذ 61 سنة.
إصلاحات "بورقيبة" أثارت جدلا واسعا وقتها، ولكنها حظيت بقبول ودعم ديوان الإفتاء التونسى، وكان يتصدره وقتها الإمام الجليل محمد الطاهر بن عاشور، كما تحظى إصلاحات "السبسى" الآن بدعم ديوان الإفتاء أيضا، ورأسه مفتى الجمهورية التونسية الشيخ عثمان بطيخ.
فى العام 1981 أصدر الحبيب بورقيبة المنشور 108 الذى يمنع ارتداء الحجاب، باعتباره واحدا من مظاهر التمميز الدينى، وخلال هذه الفترة ظهر فى أحد الاحتفالات الوطنية وهو ينزع أغطية الرأس عن بعض النساء، على هواء التليفزيون التونسى، قائلا جملته الشهيرة لإحداهن: "انظرى إلى الدنيا من غير حجاب".
قائمة إصلاحات "بورقيبة" التى أقرها ديوان الإفتاء التونسى بعلمائه، ومنهم شيخ الإسلام المالكى (المسمّى الدينى الأبرز فى تونس)، استندت إلى المبدأ الذى يتعامل مع فقه المعاملات باعتباره صيرورة تاريخية تتبدل وفق ظروف العصر وراهن الاجتماع الإنسانى وتعقيداته، وهو الموقف نفسه الذى يمكن قراءته من تعطيل عمر بن الخطاب لحد السرقة فى عام الرمادة، وتعطيله لسهم المؤلفة قلوبهم فى الزكاة استنادا إلى أن الإسلام أصبح عزيزا ولا يحتاج لمؤالفة ذوى العصبية والجاه، وهما نصان قرآنيان توقيفيان حسب الرأى السائد لدى جمهرة الفقهاء، وأيضا تعطيله لما قيل إنه "حدّ الردة"، الذى استند له المسلمون فى زمن أبى بكر، بينما لا يقوم عليه دليل من القرآن، ولا يدعمه سوى حديث واحد أورده البخارى "من بدّل دينه فاقتلوه"، وهو حديث آحاد تدور رواياته على "ابن عباس" فقط، ولا يؤخذ بأحاديث الآحاد فى أمور الأصول ومسائل الدم.
مسألة "حد الردة" واحدة من أبرز المسائل الكاشفة لفكرة الاختراع الفقهى، الحديث أورده البخارى من طريق عكرمة وهو مطعون فيه بالكذب والضعف والانتماء للخوارج، كذبه عطاء بن رباح وسعيد بن المسيب وابن سيرين، وقال أحمد بن حنبل "كان صُفريا"، وقال على بن المدينى "يرى رأى الإباضية"، وقال على بن عبد الله بن عباس: هذا الخبيث يكذب على أبى"، والحديث نفسه أورده النسائى من طريق قتادة، وهو ضعيف ومدلس، تجنبه مسلم وأعرض مالك عن رواية أحاديثه، وقال يحيى بن أبى كثير "لا يزال أهل البصرة بشرّ ما كان فيهم قتادة" وقال ابن حنبل "كان مدلسا"، وروى ضمرة بن ربيعة "كان يبغض الموالى"، والجوهر فى القضية أن الحديث يخالف نصوصا قرآنية صريحة منها "لا إكراه فى الدين"، ويخالف الثابت عن الرسول من قبوله ارتداد بعض المسلمين فى صلح الحديبية، وقبوله شفاعة عثمان بن عفان فى ردة أخيه فى الرضاعة عبد الله بن أبى سرح، ومعروف أنه "لا شفاعة فى حدّ"، ما ينفى تماما حد الردة وهذا الحديث، الذى أسس عليه الفقهاء اختراعا كبيرا اسمه قتل المرتد، كاختراعات أخرى عدّة فى قضايا العقائد والعبادات والمعاملات، تحتاج لتحرير للنص القرآنى من سلطة وغطرسة الفقهاء والمفسرين.
الصدام الوحيد لدى "بورقيبة" فى رحلته الإصلاحية، كان فى موقفه الشهير بالعام 1960، الذى دعا فيه العمال للإفطار فى رمضان، سعيا لمضاعفة العمل والإنجاز، قائلا فى خطاب مطوّل تضمن تأصيلا دينيا وفقهيا للأمر: "إن من يكون صائما وقائما بواجبه الدينى حسبما يفرضه الإسلام، ثم يدرك أن ضعف بدنه لا يسمح له بالعمل، فيستمر فى الصوم تاركا العمل، من يكون هذا شأنه لا يقرّه الدين عليه، حسبما يرى مفتى الديار التونسية، وسيشرح لكم ذلك بنفسه"، وكان المفتى محمد العزيز جعيط حاضرا اللقاء ومستمعا لكلمة "بورقيبة".
الموقف السابق أحدث صداما مع الفقيه التونسى الجليل محمد الطاهر بن عاشور، ولكن فى جانبه العميق لم يكن مفارقا لكثير مما قاله الفقهاء ودرجوا عليه، فبينما ينص القرآن على أنه "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين"، بنص صريح على جواز الإفطار حتى لمن يستطيعون الصوم، ورأى طابور من الفقهاء أن الصوم فى أوله كان على التخيير، وقالت بهذا قائمة ممتدة تبدأ من الشافعى حتى الشعراوى، مرورا بأجيال متلاحقة من الفقهاء والمفسرين، ولكنهم جميعا طوروا الأمر بادعاء أن الحُكم السابق نُسخ بآية "فمن شهد منكم الشهر فليصمه"، وبينما يمكن قراءة الأمر باعتباره إشارة بالعَلَم، بمعنى أن الآية الأخيرة تتحدث عن شهر الصوم ومن ثم فمن الطبيعى أن تستخدم الصيام كإشارة أو عَلَم، لهذا جاء لفظ "فليصمه"، دون أن يكون معنى هذا أن هناك تعارضا مع الحكم السابق أو نسخا له، فمن شهد الشهر له أن يصومه أو يُطعم مسكينا، وبالنظر إلى أن مسألة الناسخ والمنسوخ فيها أقوال وآراء عدّة، ورفضها طابور طويل من العلماء الثقات، منهم الإمام محمد عبده، ومحمد الغزالى وعلى جمعة وغيرهم، فإن "بورقيبة" فى محاولته فرض الإفطار على العمال، لم يفتئت على الحكم الدينى، ولكنه افتأت على الحرية التى يقرها الدين، من باب أنه سعى لإقرار الأمر الذى يدخل فى دائرة العبادات/ الشخصية، وفق صيغة قانونية ملزمة، تضعها فى دائرة المعاملات القابلة للاجتهاد والتطوير.
محنة الفقهاء والمفسرين الأوائل.. بين حجاب الحرة "وأثداء الإماء"
مسألة النسخ التى يمكن أن يحتج بها طابور من ناقدى "بورقيبة" ومهاجميه فى مسألة الصوم، هى نفسها التى سمحت لطابور من الفقهاء بادعاء أن فى الإسلام حدًّا اسمه الرجم، أسّسه البعض على واقعتين فى زمن الرسول، وأسسه آخرون على أن آية قرآنية نُسخت تلاوة وبقيت حُكما، وهى التى يوردها بعض الرواة بصيغة "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم"، وهذا الضرب من النسخ فضلا عن لا معقوليته واستخفافه بكتاب الله وقانونه العام "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"، رفضه أيضا مئات الفقهاء والمفسرين، ويمتد طابور الرافضين ليشمل الجصاص وأبا إسحاق الشيرازى والزركشى وأبا جعفر النحاس والشوكانى والجزيرى ومحمد رشيد رضا وكثيرين غيرهم.
منشأ الأزمة أن الصدر الأول من المفسرين والفقهاء لم يقتنعوا بأن الإحكام القرآنى كان واضحا وجليا ومقصودا فى مواضع العقيدة والعبادات، الأمور التى تتصل بنفسية المسلم وعلاقته المباشرة بالسماء، أما ما يخص المعاملات وأمور المجتمع فقد جاءت النصوص مستجيبة لقضايا واقعها، ومقدمة لفهم مناط التشريع وعلاقة الإسلام بالقضايا المحيطة به، لتكون بذرة للاجتهاد والتطوير ومواكبة الواقع، لا حكما توقيفيا منزوعا من الزمان والمكان، وربما بسبب غياب هذه الرؤية فهموا آيات "الحجاب" فى القرآن باعتبارها مفتاحا تشريعيا فيما يخص زى المرأة، والنص لم يتحدث عن أزياء الرجال أو النساء، وبينما استخلصوا فرضية ما أسموه "الحجاب" باعتباره غطاء للرأس، نزعوا هذه الفضيلة والعفة عن الإماء "الجوارى"، وأجاز فريق منهم صلاة الأَمَة عارية الصدر، باعتبار عورتها بقدر عورة الرجل، ونزع هذه الرؤية التبسيطية هو ما قاد فريقا من الفقهاء المعاصرين للإقرار بشرعية ومقبولية فوائد البنوك، وإخراجها من دائرة "الربا"، تماما كما أسقط الواقع فقه الحرب وقتال الناس حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وأسقط زواج المتعة وتجارة الرقيق، رغم بقائهما بنصوص وسياقات ثابتة، ولكن الاستجابة لتطور الاجتماع البشرى كانت حافزا على تطور منظومة العلاقات بين البشر، ليسقط استحلال العلاقة الجنسية المؤقتة بأجر، أو استحلال الإنسان بكامله كعبد، استجابة لمجتمع أكثر حداثة ومدنية واحتكاما للقانون ومبادئ العدالة والمساواة.
الوقوع فى الفخ السابق، قادنا عبر تواتر القرون وتبدل أحوال الواقع من زمن لزمن ومن بلد لبلد، وتجميد الاجتهاد منذ القرن الرابع الميلادى تقريبا، لأن نقف الآن على تلال من الفقه، تغطى جوانب التشريع والمعاملات، وتخص الفقهاء والمفسرين أكثر مما تخص القرآن، دون طرح واعٍ ومستجيب لقضايا الواقع وتعقيداته، وأبرز مثالين يمكن استجلاء هذا الأمر فيهما، قضيتا المساواة فى الميراث وزواج المسلمة من غير المسلم، اللتان كانتا الأكثر حضورا مؤخرا، مع خطاب "السبسى" قبل أسبوع.
قضية الميراث.. بين الوصية والفتوى والدين و"العَول"
فى مسألة الميراث وقضية "العَوْل" التى بدأنا بها، رأى عمر بن الخطاب ومجلسه من صحابة الرسول، فى قسمة التركة بين زوج وأختين، يستحق الأول نصف التركة وتستحق الأختان ثلثيها، أى ما يزيد على حجم التركة نفسها، أن يخصم العجز من الزوج والأختين وفق نسبة كل منهم فى الميراث، وهو فى جوهره ليس إعمالا كاملا للنص القرآنى، أو بمعنى أدق هو إعمال لنص بشرى نشأ على هامش الآية، كأنه قانون وضعى يستضىء من القرآن، ولكن عبد الله بن عباس رفض "العَول"، ولم يقبل بهذا القول على أية صورة، وظل رأيه متداولا بين قطاعات من الصحابة والتابعين، حتى اختفى تحت ركام الفقه وتتابع قوافل المؤيدين.
النص الذى يحتج به المفسرون والفقهاء فى مسألة أفضلية الذكر على الأنثى فى الميراث "يوصيكم الله فى أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين"، نص مرتبط بسياق، فبحسب المصادر التاريخية نزلت الآية فى بنات عبد الرحمن بن ثابت، شقيق حسان بن ثابت شاعر الرسول، وفى رواية أخرى أنها نزلت فى أوس بن ثابت، فعندما توفى ترك زوجة و3 بنات، فقام ابنا عمه (قتادة وعرفطة) فأخذا المال وحدهما، فشكت الأم للنبى، فنزلت هذه الآية، أى أنها فى جوهرها مرتبطة بسياق وحادثة.
كان العرب فى الجاهلية يُورِّثون الذكور فقط، ومن ثمّ كان مناط التدرج التشريعى الذى اعتمده القرآن، كما فعل فى الخمر وغيرها من المسائل، أن يرتقى من مرحلة حرمان الإناث من ميراثهن تماما، إلى فتح ثغرة لإدراجهن ضمن قائمة الوَرَثة، دون أن يُعنى هذا إغلاق الباب على فكرة التدرج وصولا إلى المساواة بين الطرفين، خاصة أن القرآن نفسه يقول فى موضع آخر عن النساء "ولهن مثل الذى عليهن بالمعروف".
بالنظر فى آيات الميراث نفسها، 11 و12 و176 من سورة النساء، نجد أن الآية الأولى تبدأ بـ"يوصيكم الله فى أولادكم..."، وأوصى بالشئ أى "عهد به إليه" بحسب ما يورده معجم "لسان العرب"، وهى صيغة تختلف عن صيغ الفرض القرآنية المعهودة "كُتب عليكم"، "أقم الصلاة"، "استغفروا ربكم"، وغيرها كثير من الشواهد التى جاءت بصيغة الفرض أو الأمر، أو حتى النهى "حُرّمت عليكم الميتة والدم..."، وبعدما تستعرض الآية 12 تفاصيل الأنصبة والفروض، تغيب قضية الميراث فترة حتى تعود مع الآية 176 "آية الكلالة"، التى تبدأ بـ"يستفتونك قل الله يفتيكم فى الكلالة..." وقياسا على خصوصية الفتوى وكونها رأيا يخص حالة محددة ويتغير بتغيرها، أو تغير ظروفها، فالآية خارج صيغة التجريد التشريعى، وخارج الأبنية اللغوية الإلزامية أيضا كسابقتها.
لو تجاوزنا آيات المواريث إلى المنجز الفقهى المحيط بها، سنجد أن الفقهاء مثلا نصوا على مساواة المرأة للرجل وهما متساويان فى الدرجة، فى حالة الإخوة لأمّ، فهم جميعا شُركاء فى الثلث بالتساوى، رغم أن الآية لا تنص على هذا، وبتعطيل كامل وواضح لنص "للذكر مثل حظ الأنثيين" حال تساوى الدرجة، كما أنهم قدّموا سداد الدَّين على وصية الميت، رغم أن القرآن أوردهما خلاف هذا "من بعد وصية يوصى بها أو دَين"، استنادا إلى رواية على بن أبى طالب بأنه شاهد الرسول يفعل هذا، ومن الباب نفسه يمنعون الوصية للوارث استنادا لحديث منسوب للرسول، أخرجه أحمد وأبو داود والترمذى، رغم أن الآيات لم تذكر هذا الأمر، وهو من الأهمية بمكان أن يرد فى المتن القرآنى لو كان الشارع يبتغى النص عليه وإقراره قانونا.
مدخل آخر يمكن مساءلة قضية المواريث من خلاله، يتصل بفكرة "العَصبة" التى أقرها الفقهاء، ووضعوا لها تسلسلا لم ينص عليه القرآن، متضمنا مولى الموالاة ومولى العتاقة ثم عصبته، على سبيل المثال، ووفق هذه القاعدة فإن مات ولد قبل أبيه، يُحجب أبناؤه عن الميراث بأعمامهم، وإن كانوا أكثر فقرا واحتياجا، والأمر نفسه إن مات رجل وترك أطفالا وأبناء كبارا، إذ يتحصل كل منهم على نصيبه من التركة بتساوٍ بين كل نوع وإن اختلف العمر، دون نظر لما حصّله الكبار من نفقات وتعليم وإعالة من الأب، وربما وصل الأمر إلى تحمل نفقات الزواج والمسكن وتدبير العمل، وبين الحالتين يطل سؤال حول الموازنة بين مفهومى العدل والمساواة، فوفق النظرة القائمة يغيب أبناء الابن الميت عن ميراث الجد تماما، وتتحقق المساواة بين الأبناء الكبار والصغار، حتى لو اقتضت الحاجة وظروف المعيشة نظرة أخرى فى تقسيم تركة الوالد انتصارا للعدالة.
قضية أخرى ما زالت قائمة ومتاحة للدرس وإن طواها التاريخ، تتصل بميراث السيدة فاطمة ابنة الرسول، الذى حجبه أبو بكر استنادا إلى حديث السيدة عائشة "لا نورّث ما تركنا فهو صدقة"، وبعيدا عن موقف السيدة فاطمة الرافض، وموقف على بن أبى طالب المستهجن بصمت، فإن أبا بكر تصدى للأمر وفق السلطة المخولة له كولى للأمر، فعطل النص القرآنى الصريح، الذى لم يضع استثناء فى المواريث، انتصارا للنص النبوى المنسوب للرسول، وهو الأمر نفسه الذى يترك الباب مفتوحا لولى الأمر الآن للتدخل فى أمور المعاملات، موازنا بين النص وفقه الواقع، وهو ما تفعله اقتراحات "السبسى" فى تونس.
زواج المسلمة من غير المسلم.. الفقهاء يكسرون أعناق الآيات
القضية الأخرى التى أشعلت أجواء المنطقة مؤخرا، قضية زواج المسلمة من غير المسلم، التى تحدث عنها الرئيس التونسى فى إطار مراجعة المرسوم 73 الذى ينظم زواج التونسيات من أجانب.
فى هذه القضية يستند رافضو الأمر ومنكروه على الآية 221 من سورة البقرة "ولا تنحكوا المشركات حتى يؤمنّ ولأمَة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تُنكِحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم..." وهنا تتحدث الآية عن المشركين لا عن أهل الكتاب من المسيحيين واليهود، وهو ما يؤكده طرح جمهرة المفسرين والفقهاء، وفى مقدمتهم الشافعى ومالك والقرطبى والرازى والكاسانى وابن قدامة وأبو عبيد وابن المنذر وغيرهم.
الغريب أن الفقهاء الذين قالوا إن الآية نزلت فى مشركى أهل الأوثان، هم أنفسهم عادوا للارتداد على ما طرحوه، فيقول الشافعى فى "أحكام القرآن": "إن كانت الآية نزلت فى تحريم نساء المسلمين على المشركين من مشركى أهل الأوثان، فالمسلمات محرمات على المشركين منهم بالقرآن بكل حال، وعلى مشركى أهل الكتاب"، ويقول الرازى فى "التفسير الكبير" وأورده ابن كثير فى تفسيره: "فلا خلاف هنا أن المراد به الكل - أى كل غير المسلمين - وأن المؤمنة لا يحل تزوجها من الكافر البتة على اختلاف أنواع الكفرة"، ويقول الإمام مالك بحسب "المدونة الكبرى": "المسلمة لا يجوز أن ينكحها النصرانى أو اليهودى على حال"، ولن تعدم آلاف الأمثلة الشبيهة لدى جمهرة الفقهاء.
المشكلة الكبرى فى طرح المفسرين والفقهاء وما استقوه من الآية، أن النص يساوى بين المشركة والمشرك، إذ لا يجوز نكاح أى منهما، بينما يُجيز الإسلام زواج الرجل من الكتابية، المسيحية أو اليهودية، فإذا صح زواج المسلم من كتابية فمعناه أن شق "لا تنحكوا المشركات حتى يؤمنّ" لا ينطبق عليها، ما يُعنى أنها خارج دائرة المشركين، وهو ما ينسحب بالتبعية على شق الآية الثانى "ولا تُنكحِوا المشركين حتى يؤمنوا"، ما يُعنى أن مظلة التحريم فى الآية لا تغطى المسيحى واليهودى، وأنها تتحدث عن المشركين الوثنيين، يدعم هذا تواتر الخطاب القرآنى فى غير موضع مميزا وفاصلا بين المشركين وأهل الكتاب، ما يعنى أنهما صنفان مختلفان، ومثاله "لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة" وهو ما ينسف الطرح الفقهى فى هذا الباب.
البحث عن علّة مقنعة وراء تحريم الفقهاء لزواج المسلمة من غير السلم، واستشهادهم بآية فى غير سياقها، ولىّ عنق النص إلى حد أن يفسروا "المشرك" بمعنيين مختلفين فى موضعين بآية واحدة، بحث لن يُفضى إلى حجة من العقيدة والنص، خاصة أن المدونة النبوية لا تحفظ حديثا للرسول يتناول أمر زواج المسلمة من غير المسلم، وبعد بحث واجتهاد ودوران، ربما لن تجد تبريرا إلا فى قول القرطبى فى "الجامع لأحكام القرآن" مفسرا الآية السابقة: "أى لا تُزوجّوا المسلمة من المشرك، وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه، لما فى ذلك من الغضاضة على الإسلام"، أى أن فقهاء الإسلام لم يكونوا فى سياق بحث عن جوهر النص وحكمة الشارع، وإنما جنّدوا أنفسهم فى حرب للدفاع عن جسد الأنثى، على أرضية عصبية ترى أن العلاقة الزوجية التى شرعها الله قد تكون مشينة أو وجهًا من وجوه الغضاضة للإسلام لو وطأ الكتابى مسلمة، وهو إخلاص للقيم البدوية التى تعاملت مع المرأة كإرث وتركة وباب عار للقبيلة، أكثر من كونه إخلاصا لقيم الإسلام الإنسانية وصحيح نصوصه.
ابنة الرسول فى عصمة "أبى العاص".. و"آية الطيبات" تحتمل الإجازة
وفق أى نظرة موضوعية وواعية للنص القرآنى، لا يمكن التعامل مع الآية 221 من سورة البقرة باعتبارها تحمل تحريما لزواج المسلمة من كتابى، مسيحيا كان أو يهوديا، خاصة مع النظر لسابقتها، الآية 199 من سورة البقرة "وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أُنزل إليكم وما أُنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا"، ولأن القاعدة أن "الأصل فى الأمور الحلّ ما لم يرد نص بالتحريم"، فإننا ما لم نقع على نص صريح بحرمة زواج المسلمة من الكتابى، فإن الأمر يظل فى باب المباح.
وفق مرويات تاريخية عدّة، عندما أسر المسلمون أبا العاص بن الربيع، زوج السيدة زينب ابنة رسول الله، اتفق معه الرسول على إعادة زوجته على أن يطلق سراحه، فوفى بالعهد، ثم أسلم فردّ عليه الرسول زوجته، هذا بحسب فصل من الروايات، بينما تسكت روايات أخرى عن مسألة إسلامه، وتقول غيرها إنه أسلم وعاد عن الأمر، والمحصلة أن السيدة زينب ظلت فى عصمته، ويُورد الإمام ابن القيم 9 أقوال فى أحكام أهل الذمة، منها أنه إذا أسلمت الزوجة وظل زوجها على دينه، تظل فى عصمته حتى يُفرق بينهما السلطان، أى أنه عقد مناط التفريق بقرار السلطان، ويظل الزواج قائما وصحيحا ما ظل إقرار ولى الأمر له، وأقر هذا طابور طويل من قدامى الفقهاء ومُحدَثيهم.
إلى جانب الآية السابقة هناك آية أخرى يستدل بها رافضو زواج المسلمة من غير المسلم، من أهل الكتاب، الآية 5 من سورة المائدة: "اليوم أُحلّ لكم الطيبات وطعام الذين أُوتوا الكتاب حِلّ لكم وطعامكم حِلّ لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أُوتوا الكتاب إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذى أخدان..." ويقول المفسرون إن هذه الآية تتحدث عن زواج المسلم من الكتابية وتصمت عن الحالة العكسية، مستدلين على هذا باعتباره تحريما للأمر، وبعيدا عن أن الأصل الحِلّ ما لم يُنَصّ على التحريم كما ذكرنا، فالصمت إقرار وإباحة لا مصادرة ومنع، مصداقا لقول الرسول "ما أحلّ الله فى كتابه فهو حلال، وما حرّم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته"، أخرجه الدارقطنى من رواية أبى الدرداء.
الجانب الأهم هنا يتصل بتدبر نص الآية وإلقاء نظرة عميقة عليها، خاصة فى قول الله "اليوم أُحلّ لكم الطيبات وطعام الذين أُوتوا الكتاب حِلّ لكم وطعامكم حِلّ لهم والمحصنات من المؤمنات.." فهل كانت المحصنات من المؤمنين محرمات على رجال الأمة قبل هذه الآية؟ عقلا لا يمكن قبول هذا المعنى بوجه، وإلا كانت زيجات المسلمين قبلها حراما، يُضاف لهذا الاستطراد القرآنى بالقول "محصنين غير مسافحين ولا متخذى أخدان" فما الذى يمنع الذكر المسلم من الزواج وأن يكون محصنا غير مسافح؟ ولماذا حضر "اتخاذ الأخدان" فى هذا السياق؟ وفق هذه الأسئلة فإن جوهر الآية أنها تتحدث فى سياق آخر، وتحمل خطابا مغايرا لما يبدو للوهلة الأولى، فماذا لو قرأناها: "اليوم أُحلّ لكم الطيبات وطعام الذين أُوتوا الكتاب حِلّ لكم/ وطعامكم حِلّ لهم والمحصنات من المؤمنات/ والمحصنات من الذين أُوتوا الكتاب إذا آتيتموهن أجورهن..." هل يحتمل هذا الوجه من القراءة إباحة لزواج المسلمة من غير المسلم؟
الخطاب الإلهى فى الآية ينطلق من نقطة زمنية، أحلّت أمرا كان حراما أو موقوفا "اليوم أُحلّ لكم الطيبات"، ولأن المحصنات من المؤمنات كُنّ حلالا للمؤمنين قبلها، فحضورهن فى هذه الآية حضور لعلّة جديدة، خطاب الآية على مستويين من الضمير، المُخاطَب والغائب، فالآية تتحدث عن منطلق تشريعى جديد جبّ تشريعا قديما، فأُحلّت الطيبات وأُحلّ لنا طعام أهل الكتاب، والمستوى الثانى "وطعامكم حِلّ لهم والمحصنات من المؤمنات" بصياغة معلقة على محذوف، أى والمحصنات من المؤمنات حل لهم أيضا، فى وجه لا يمكن نفيه من احتمالات القراءة، ثم تستكمل الآية "والمحصنات من الذين أُوتوا الكتاب إذا آتيتموهن أجورهن"، عائدا إلى المُخاطَب ليستوفى الخطاب بالضميرين الملحقين بـ"آتيتموهن"، كمناط لصحة رباط المؤمن بالمحصنة من أهل الكتاب، ولتماثل الحالة والتشريع، فإن الحكم نفسه يعود على المحصنات من المؤمنين ورباطهن بأهل الكتاب.
الرد الشائع لدى المحافظين ومن يتبنون رؤية قدامى الفقهاء المعوجة للنص، يقوم على أن للرجل ولاية على المرأة، لا تضمن للمسلمة الوفاء بشعائر دينها إن كانت تحت مسيحى أو يهودى، بينما إيمان المسلم بالمسيحية واليهودية سيكفل لزوجته الكتابية أداء شعائرها، وهذا الأمر مردود عليه بأمرين، الأول أنه فى دولة حديثة ومجتمع ينظمه القانون انحلّت ولاية الزوج فى أمور العقيدة لتنعقد فى يد الدولة والقانون، وولى الأمر ينظم المسألة ويضمن حقوق الأفراد على اختلاف عقائدهم، والأمر الآخر أن من يقتلون المسيحيين فى العراق والشام، ومن فجروا كنائسهم فى مصر، كلهم ممن يُفترض أنهم مسلمون ويؤمنون بالمسيحية واليهودية وحق أتباعهما فى العبادة، وبمنطق دوران الحكم مع العلة وجوبا وانتفاء، فليس شرطا أن يكون كل المسلمين أمناء على زوجاتهم الكتابيات، ولا كل المسيحيين واليهود مصادر تهديد لزوجاتهم المسلمات، وبانتفاء العلّة ينتفى الحكم، ويصبح مناط تنظيم الأمر فى يد القانون وسلطة ولى الأمر، وهو ما ينتفى معه الحِلّ أو التحريم لهذه العلة التى يتخذها المتشددون تبريرا سطحيا غير عقلانى ولا مقنع.
بين اجتهاد السبسى واجتهاد "ابن تيمية".. تونس تضىء فلا تطفئوها
يقول الإمام محمد عبده فى كتابه "الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية": "لكل مسلم أن يفهم عن الله من كتاب الله، وعن رسوله من كلام رسوله، بدون توسيط من أحد من سلف ولا خلف"، وهذا المنطق مفتاح عميق وجوهرى لفهم القرآن وخطابه العقلانى، وفى جوهره يعنى الاستجابة لفقه الواقع، باعتبار فهم كل شخص أمرا نابعا من سياقه الاجتماعى والثقافى وما يعايشه من ظروف ومثيرات.
فى زيارته الثانية لتونس فى 1903، التقى محمد عبده، مفتى الديار المصرية وقتها، الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، وامتدح علمه وأسماه "سفير الدعوة"، وهو خريج جامعة الزيتونة، أقدم جامعة إسلامية فى العالم، إذ تأسست وانتظمت دروسها فى 737 ميلادية، قبل الأزهر بقرنين ونصف القرن تقريبا، سبقها جامع القيروان وجامعته بحوالى 29 سنة، وأحاطت بهما المدرسة الخلدونية والمدرسة الصادقية، وجامعة الزيتونة خرجت عبد الرحمن بن خلدون، والإمام سحنون، وعشرات من الفقهاء والعلماء الثقات، وصولا إلى الشيخ محمد الخضر حسين، شيخ الأزهر الوحيد غير المصرى فى تاريخ المؤسسة، وعن الزيتونة وفضلها قال الإمام محمد عبده: "إن مسلمى الزيتونة سبقونا إلى إصلاح التعليم، حتى كان ما يجرون عليه فى جامع الزيتونة خيرًا مما عليه أهل الأزهر".
الثابت من تاريخ تونس أن لها باعا فى علوم الفقه والشريعة، عبر جامعتى القيروان والزيتونة، كما أن لها باعا فى التنوير والتحديث، بسياق متزامن تقريبا مع حركة التنوير التى شهدتها مصر فى فترة ثورة 1919، ففى مؤتمر لجمعية "الترقى" التونسية سنة 1924، بعنوان "مع أو ضد الحركة النسوية"، صعدت "منوبية الورتانى" لمنصة المؤتمر بوجه مكشوف لتلقى كلمة، متمردة على مصادرة المرأة خلف النقاب، الذى يقر فقهاء كثيرون أنه لا صلة له بالإسلام، وهو ما تكرر فى 1929 مع حبيبة المنشارى فى مؤتمر نسائى تحت العنوان نفسه، وبعدها بسنة واحدة أصدر طاهر حداد كتابه "امرأتنا فى الشريعة والمجتمع"، متبنيا خطابا تنويريا داعيا لتحرير المرأة والوفاء بحقوقها، على أرضية من التأصيل الدينى والاجتماعى والفكرى، ويُعد حداد، الذى توفى فى 1935 وعمره 36 سنة، رائدا من رواد حركة التنوير وتحرير المرأة فى تونس.
الفيصل فى هذا الأمر، أن ما أقره ابن القيم نموذجا، من صحة بقاء المسلمة مع زوجها غير المسلم حتى يفرق بينهما السلطان، هو مفتاح الاشتباك مع الواقع فقهيا، ففقه الواقع الذى يراعى ظروف الحياة وتغيراتها لا يمكن أن يغفل عن صيغة الدولة المدنية الحديثة، ذات البنية القانونية والصيغة متعددة السلطات، وفى هذا الوجه تُعقد إدارة أمور الواقع والمجتمع لولى الأمر، وهو الرئيس فى الحالة المعاصرة، يعاونه أهل الحل والعقد، ويمثلهم البرلمان أو المؤسسة التشريعية والخبراء فى مجالات العلم والمعرفة فى هذا السياق الحضارى الحديث، وتمتد ولاية هذه الدائرة إلى كل أمور المجتمع من معاملات وعلاقات بين الأفراد، وفى هذا إصلاح للمجتمع بمواءمته بعصره، يؤكد هذا الحديث الموقوف عند عثمان بن عفان، وقيل عند عمر بن الخطاب: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، ولا يخرج عن ولاية دائرة الحاكم والبرلمان إلا أمور العقيدة والعبادات فى بُعدها الشخصى، إذ تظل على صورتها التوقيفية وفق النص القرآنى وصحيح السنة.
بالتأكيد سيثور فريق واسع من الناس، خاصة الفقهاء ومن اتخذوا الدين مهنة وحرفة، رافضين إناطة الأمر بولى الأمر، أو حتى بإجماع الأمة فى صورتها الوطنية، أى حتى لو أجمع التونسيون على قبول التعديلات المقترحة، سيظل الرافضون على رفضهم، متجاهلين حجية الإجماع وسلطة الناس فى إنفاذ أمور اجتماعهم ومعاملاتهم بالتوافق الحر الذى لا يقيده قيد، خاصة فى دولة حديثة عمادها القانون والمواطنة، والأخيرة ليست إلا "المساواة" فى صيغة كاملة وشاملة لكل الجوانب، فى الواجبات والحقوق، وفريق الثائرين فى ثورته لن يلتفت إلى أن قدامى الفقهاء استجابوا لفقه الواقع كثيرا، ووصل الأمر لحالات ومواقف تخالف ظاهر النص القرآنى.
الحالة السابقة لا تتوقف فقط على قضية "العَول" فى الميراث، وتقديم الدَّين على الوصية، ومساواة الذكور والإناث الإخوة لأم دون نص، ولا تتوقف أيضا على قول ابن القيم بجواز بقاء المسلمة مع زوجها غير المسلم حتى يفرقهما السلطان، ولا بقاء السيدة زينب ابنة الرسول فى عصمة أبى العاص بن الربيع، وكذلك لا تتوقف على تعطيل عمرو بن الخطاب لحد السرقة وسهم المؤلفة قلوبهم، واختراع الفقهاء لحد الرجم الذى لا يذكره القرآن، بل تنسفه الآية 25 من سورة النساء، ولكن يصل أيضا إلى الإمام ابن تيمية، أحد أكثر الفقهاء والعلماء تشددا بحسب آراء كثيرين، والذى يحتج به فقهاء الحاضر فى كثير من الأمور، بينما لا يلتفتون لما حُكى عنه، بنص قوله وفق ما أورده تلميذه ابن القيم فى كتابه "أعلام الموقعين": "مررت أنا وبعض أصحابى فى زمن التتار بقوم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معى، فأنكرت عليه وقلت له: إنما ذم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفس وسبى الذرية وأخذ الأموال، فدعهم".. فهل ندع تونس أم أن لنا عليها وعلى العقل وكتاب الله سلطانا؟!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة