هنا دير درنكة، جاءته «مريم العذراء» هاربة فاحتضنها الجبل وصار من بعدها مزارًا، تفتح العذراء ذراعيها فتصير أما لكل البشر، فى مغارتها تتساقط الأمنيات تتلقفها أم النور برفق وحنان، وتأخذها كساعى بريد للسماء، فى مغارتها المقدسة تستقبل طلبات وتؤجل أخرى ولكنها لا تخذل الواقفين على بابها.. هكذا يتحدث رواد المكان الذين لا يتوقفون عن طرق بابه.
فى دير درنكة، أقدام العذراء الخائفة وذراعاها الحنونان يطوقان المسيح بين دفتى الجبل، تودع قلقها وتستبدل بهروبها السلم، فتبدل أمانينا حقائق كلما جاء عيدها.. يردد أبناء أسيوط مسلمين ومسيحيين: «تحب العذراء بلادنا كما نحبها، حتى إنها ظهرت لنا منذ سنوات فى سماء تلك المدينة، أسيوط التى كانت لها ملاذًا يوم طاردها الرومان».
يحتفل الأقباط بمولد السيدة العذراء بجبل درنكة كل عام لمدة أسبوعين، ويتزامن ذلك مع الصوم الصغير المعروف باسم صوم العذراء الذى يختتم اليوم الاثنين، وطوال تلك الفترة لا تنقطع النذور.
يبعد دير العذراء 10 كيلومترات عن قلب مدينة أسيوط، حيث يقع فى قرية درنكة الجبلية، لذلك فإن الطريق للجبل صار هو الآخر نذرًا، فى الليالى الأخيرة، وقبل أن تودع العذراء المدينة، ترى آلاف العاشقين وقد قرروا السير لها مشيًا من بيوتهم بأسيوط أو موضع نزولهم لها سواء فى الموقف أو محطات القطار وحتى أعلى جبل المغارة.
فى الطريق للجبل، ترى الناذرين نساء وأطفالا ورجالا وعجائز، يقطعون الطريق محبة وتطوعًا، يتركون السيارات ووسائل الراحة، يتشبهون برهبان الصحراء الأوائل الذين كانوا يقطعون الصحارى القفار نسكًا وعبادة، يقول مرقس الذى جاء من محافظة المنيا ليزور الدير، إنه قطع تلك المسافة من موقف المحافظات على أطراف أسيوط حتى أعلى جبل المغارة تطوعًا ومحبة فى العذراء، بعد أن طلب منها أن تحل له مشكلة عالقة فى أرضه منذ سنوات بعدما لجأ للقضاء وفشلت كل السبل يقول: «تدخلت أم النور وحلت المعجد كله» ويقصد «المعقد» باللهجة الصعيدية، فنذرت لها سيرًا إلى الجبل كل عام.
إلى جوار مرقس فتيات فى منتصف العشرينات، كارولين وماريا وليديا، شقيقات يدرسن بجامعة المنيا، ينزلن من القطار ليلحقن بوالدهن المقدس مخلص الذى حضر المولد من أوله كما يفعل كل عام، بينما فضلت الفتيات أن تمشى له فى الليلة الأخيرة تقربًا لأم النور ورغبة فى نيل الشفاعة، لكل منهن أمنية لا تفصح عنها وتبقيها سرًا بينها وبين العذراء التى اعتادت أن تحتفظ بكل تلك الطلبات فى قلبها حتى تستجيب.
فى قلب الجبل، وطوال الطريق للدير ثكنات عسكرية، رجال القوات المسلحة يسكنون الجبل الوعر، يحمون زوار الطريق من الإرهاب الذى عرف طريقه لتلك المدينة فى الثمانينات وسكن جبالها الوعرة، حتى إنه عاد مرة أخرى للجبال نفسها فى محافظة أسيوط، حتى اكتشفته الشرطة وطهرته، وفى تلك البؤر الجبلية ترى وجوهًا صبغت بلون الجبل وحرارته، تنذر نفسها للوطن كما يفعل السائرون نحو العذراء، كل يقدم روحه وصحته لمن يحب.
قف للتفتيش.. إجراءات مشددة قبل الصعود
تتجاوز طريق السائرين، وترى الكشافة الكنسية تدعوك لإخراج بطاقة الرقم القومى، وتقف عند أول بوابة للدير، أنت الآن على موعد مع نقطة التفتيش الأولى حيث لا مجال للتهاون أو الاعتراض، تخرج بطاقتك وتضع حقيبتك على الجهاز الإلكترونى ثم تعاود الكشافة الكنسية تفتيشها مرة أخرى.
الكشافة ترتدى زيها البيج مع شرائط فوق الصدور، شباب وفتيات يتطوعون لخدمة الدير فى تلك الفترة ويعاونون رجال الشرطة فى الحفاظ على أرواح الأقباط، تطلع الكشافة على بطاقتك وتفرغ حقيبتك فتتأكد أن ما تحمله هو مواد عطرية وليس مواد قابلة للاشتعال، فلا يحق لك الدخول بها، كما سيتطلب منك الأمر أن تترك أى آلات حادة فى الأمانات لديهم.
بعد البوابة الأولى ستدخل للبوابة الثانية، التفتيش سيصبح أدق كلما اقتربت من بوابة الدخول، تقول ماريان أحد أفراد الكشافة إنهم تلقوا تدريبًا على ذلك فى خدمة فرق الكشافة بالكنائس التابعين لها، فهى تفتش الحقيبة وتبلغ «كابتن الكشافة» أو القائد بكل ما تشتبه فيه ليتولى الآخر إبلاغ الشرطة، أما السيارات فمنعت الشرطة صعودها أعلى جبل العذراء، واكتفت بالسماح بدخول حاملى التصاريح، حيث خصصت لكل عائلة تصريحًا واحدًا فقط مزودا برقم السيارة وباسم سائقها، المنع ينطبق أيضًا طلوعها على سيارات الأجرة أن تتولى سيارات وأتوبيسات تابعة للدير نقل الزوار إلى أعلى بالقرب من بوابة كنائس الدير العلوية.
اتسمت احتفالات هذا العام بزيادة القبضة الأمنية، خاصة وهى تمثل أول عودة للاحتفالات والموالد القبطية بعد قرار إلغاء الاحتفالات الذى اتخذته الكنائس الشهر الماضى، عقب حادث دير الأنبا صموئيل الإرهابى بالمنيا، ما دفع الدير لإلغاء الكثير من المظاهر الاحتفالية التى كانت تتم الأعوام الماضية بالتنسيق مع الأمن.
بوابة الدير.. هواء برائحة العذراء
عند البوابة الأخيرة للدير ستتوقف السيارة وتتركك لتصعد منحدرًا جبليًا على قدميك، تحوطه بنايات مملوكة للدير، وصلبان تقف منتصبة فى السماء، البنايات المحيطة مملوكة للدير يؤجرها للزوار سنويًا، تزيد الأسعار كلما اقتربت من مغارة العذراء أكثر، وتزيد أكثر إذا طلت شرفتك على دورة العذراء التى تنطلق فى الرابعة عصرًا يوميًا، وبين الدير ومبانيه، آلاف العاشقين يفترشون الجبل بالملاءات والحصير، يتنفسون هواء سرى فيه نَفَس العذراء من قبل، يأتون بعد غياب شمس الصعيد الحارقة يبيتون ليلتهم، يستيقظون على أصوات أجراس الكنائس الكثيرة تعلن بدء القداس فى السابعة صباح كل يوم، تسبقه أصوات الترانيم العذبة، تنطلق من سماعات كثيرة تغطى المنطقة كلها، وشاشات عرض عملاقة يجلس أمامها المحبون يتابعون طقوس الصلاة والعبادة إن عطلهم الزحام عن الوصول.
تسمع فى طريقك ألحانًا كنسية باللغة القبطية، تقطعها «كيراليسون» يارب ارحم، ومن تلك السماعات العملاقة التى تطلقها المحال المنتشرة فى ساحة الدير ستطرب أذنك لسماع تمجيد العذراء السلام لك يا مريم يا حمامة يا جليلة السلام لك يا مريم يا قوية يا أمينة.
المحال نفسها التى تبيع منتجات الدير تتسمى بألقاب العذراء، محل الطيور يسمى بالحمامة الحسنة وهو اسم للعذراء فى الإنجيل، ومحل المنتجات الحيوانية يسمى بأم النور، أما محل البقالة فيسمى الممتلئة نعمة وهو اسم للعذراء أيضًا ذات المائة وخمسين لقبًا، تشعر أن كل الأماكن والأسماء والصور تكتسى بها وهى تحاول أن تنال من فيض بركتها.
خراف وعجول تذبح محبة للعذراء
فى طرقات الدير، تقابل شبابًا ورجالًا، يجرون الماشية من رؤوسها أو أذنيها، أو يحملون الخراف الصغيرة على أكتافهم يصعدون بها أعلى الجبل، حتى يبلغوا مكان الذبائح، الذى كتب عليه «الذبح والنذور»، ستتعرف عليه من تلك الرائحة النفاذة للحوم، الدم يزكم الأنوف فى المذبح جزارون متطوعون بالخدمة، أشرف يعمل مدرسًا للغة الفرنسية ولكنه يتطوع بالخدمة فى مذبح الدير منذ 10 سنوات، أما ديفيد فهو طالب بكلية الحقوق ويتطوع فى المذبح منذ أن كان مراهقًا فى الإعدادية، «نترك كل أعمالنا فى فترة الدير ونأتى لنحصل على بركة العذراء كل عام» يقول أشرف، ويؤكد أن المذبح يستقبل عشرات الرؤوس من الماشية الحية يوميًا تذبح وتوزع على فقراء الكنيسة، أو تحتفظ بها إدارة الدير فى ثلاجات عملاقة لتمنحها لمن يستحق من إخوة الرب الفقراء، ويحصل الناذر على نصيبه من الذبح حسبما اتفق وحسبما يريد.
عم صدقى جزار المذبح يقول، إنه يذبح ما يزيد على ألف رأس فى آخر يومين حين يشتد الزحام بالدير، متبرعون من المسلمين والأقباط، يأتون للعذراء ويلبون النذر بعدما تحقق طلباتهم.
فى كنيسة المعمودية.. حنا وكاراس يدخلان المسيحية
تخرج من المذبح وتنزل سلالم، وتمشى فى طريق كنيسة المغارة، سترى أمهات يحملن بناتهن الصغيرات وهن يرتدين فساتين بيضاء كالعرائس، أما الذكور ستراهم فى نفس الساحة يلبسون "تونيا الشمامسة" البيضاء، وفوقها حلة الأسقف الكهنوتية، وعلى الرأس تاج البابا البطريرك.. هؤلاء حديثو العهد بالمسيحية، إذ جرى تعميدهم فوق مذبح دير العذراء المقدس، واحتفلت بهم الكنيسة فى زفة الشمامسة بصلاة القداس.
فى كنيسة المعمودية، يقف القس الكاهن يرتدى "مريلة" جلدية سوداء فوق جلبابه الكهنوتى الأسود كى يتجنب أثر الماء، وتأتى النساء تباعًا تسلمه الأطفال الرضع لكى يدخلون المسيحية، عبر طقس التعميد الذى يمارس تخليدًا لذكرى تعميد المسيح فى نهر الأردن حين كان طفلاً.
تبدأ طقوس التعميد بصلاة تسمى "صلاة تحليل المرأة"، بعدها تخلع الأم ملابس الطفل ثم تحمله على يدها اليسرى وتنظر إلى الغرب وترفع يدها اليمنى وتردد وراء الأب الكاهن عبارات جحد الشيطان: "أجحدك أيها الشيطان وكل أعمالك النجسة، وكل جنودك الأشرار، وكل شياطينك الرديئة، وكل قوتك، وكل عبادتك المرزولة، وكل حيلك الرديئة والمضلة، وكل جيشك وكل سلطانك وكل بقية نفاقك، أجحدك.. أجحدك.. أجحدك، ثم ينفخ الكاهن فى وجه الطفل 3 مرات وهو يقول: اخرجى أيتها الروح النجسة".
تنظر الأم ناحية الشرق وطفلها على يدها اليسرى، واليمنى مرفوعة إلى أعلى وتردد خلف الكاهن: أعترف لك أيها المسيح إلهى، وبكل نواميسك المخلصة وكل خدمتك وكل أعمالك المعطية الحياة.
ثم يسألها الكاهن ثلاث مرات قائلاً : هل آمنت على هذا الطفل؟
فتجاوبه ثلاث مرات: آمنت.
يمسك القس المكلف بالتعميد الطفل، تخلع أمه ملابسه وتعيده لصورة ولادته، يدهن الكاهن جسده بزيت الميرون المقدس، وهو نفس الزيت الذى دهن به جسد المسيح، ثم يقرأ عليه بعض الصلوات، يمسك الكاهن الطفل بيديه من تحت إبطيه ووجه الطفل إلى الغرب.
ينزله الى الماء بهدوء رويدًا رويدا حتى لا يصاب الطفل بالخوف والفزع، إلى أن يغطسه فى الماء تمامًا وهو يقول، أعمدك يا كاراس باسم الآب: وهذه الغطسة الأولى ثم يصعده من الماء وينفخ فى وجهه.
ثم يغطسه ثانية وهو يقول بسم الابن: وهذه هى الغطسة الثانية ثم يصعده من الماء وينفخ فى وجهه.
ثم يغطسه ثالثة حتى يغمره كله فى الماء وهو يقول بسم الروح القدس: وهذه هى الغطسة الثالثة ثم يصعده من الماء وينفخ فى وجهه مرة ثالثة.
يسلم الكاهن الطفل إلى أمه من الناحية اليمنى وتكون واقفة على يمين الكاهن ممسكة بفوطة كبيرة نظيفة لتستقبل فيها الطفل وتنشف جسده من الماء استعدادًا لدهنه بالميرون مرة أخرى، وبعدها سيرتدى كاراس ملابس البطريرك حيث التونية البيضاء والعمامة فوق رأسه، ومثله يفعل حنا الذى تطلق أمه الزغاريد عند تعميده وتقف لتتلقى تهانى دخول ابنها المسيحية، بعدها سيكون على الكاهن تسليم الأمين شهادات تعميد مثبت فيها تاريخ معمودية الطفل ومكان التعميد واسمه وهى الشهادة التى يثبت بها انتمائه للطائفة الأرثوذكسية وتظل معه طوال حياته.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة