رحل الكاتب الكبير محفوظ عبدالرحمن، وخسرت مصر وجها من وجوهها المبدعة الملهمة التى قامت بدورها وأكثر، وأصبحت الكتابة التليفزيونية فى حاجة قوية لنار جديدة تشعل روحها وتمنحها البريق الذى ساعد على استمرارها ومقاومتها للدخيل والغريب كل هذه السنوات.
كان اسم محفوظ عبدالرحمن كافيا بشدة لتتوقع عملا يحترم عقلك وروحك، ويقدم لك فنا ومعرفة ورؤية تنتقل بك من إطار التلقى إلى مرحلة بناء الوعى، ويدفعك بقوة إلى التفكير.
يعرف متابعو الدراما والفن قيمة محفوظ عبدالرحمن، ويمكنهم بسهولة أن يعقدوا مقارنة بينه وبين الآخرين من حيث تأثرهم بالأشياء وتورطهم فى حبها والسعى الدائم لمتابعتها، ولعل مسلسل أم كلثوم هو النموذج الأكثر تحقيقا لهذا الأمر.
لا يحتاج المشاهد إلى كثير عناء ليدرك أن الفارق الذى صنع الميزة الكبرى لكل من محفوظ عبدالرحمن والراحل الرائع أسامة أنور عكاشة هو إدراك قيمة التفاصيل، كان أسامة مشغولا بتفاصيل الإنسان لا يهمه الحدث بقدر ما يستغرقه بناء الشخصية، أما محفوظ عبدالرحمن فكان هاجسه الأكبر التفاصيل التاريخية، لا يكتفى بالإطار ولا يعمد إلى الحشو، لكنه يتبع سبيل اليقين حتى يصل إلى ما يراه حقيقة.
لم يكن التاريخ بالنسبة لمحفوظ عبدالرحمن مجرد قصر بازخ ورجل يرتدى طربوشا وسيارة قديمة تتهادى فى الشوارع الواسعة وفلاح يرتدى ثيابا ممزقة ويحمل فى يده فأسا لم تلمس الأرض مرة واحدة، بل إن تفاصيل التاريخ عند محفوظ عبدالرحمن هى العلاقات الإنسانية الكامنة فى الحزن والفرح وفى التعلق بالأشياء وانفراطها.
من أجل هذا كانت ولا تزال أعمال محفوظ عبدالرحمن تثير فينا أكثر مما يتوقعه هو أو نتوقعه نحن، تثير فينا الحنين للجمال وتدفعنا للتنقيب فى حياتنا ومحاسبتها على أخطائها لأنها سمحت أن تصبح مطحونة تحت سعار المطالب المادية الصعبة.
كان محفوظ عبدالرحمن يدرك طبيعة الجمهور الذى يقصده ويتوجه إليه، يعرف أن البحث عن الهوية والتمسك بها هى أغلى ما لديه، لم ينخدع فى التغريب، لأنه يعرف جيدا أن التغريب لا يكون فى أسس بناء الإنسان، لا يكون على حساب وجوده وخصوصيته.
وفى ظنى أن محفوظ عبدالرحمن لم يكتب بحثا عن العائد المادى لكنه كتب بحثا عن القيمة الإنسانية، والتى تظل رغم الزمن الذى يغير أشياء منها مزاج المشاهد ويستحدث أنواعا جديدة من صيغ «ما يحتاجه الجمهور» والتى تصنع نوعا جديدا من الجمهور، لكن حتى هذا الجمهور الذى يغرم بالتقاليع الحديثة لا يمكنه أن يقاوم تجاوبه مع الأعمال التى تحقق له الشبع الروحى.
رحم الله محفوظ عبدالرحمن ورزقنا بالكتاب المميزين الذين يدركون حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم والذين يعمدون لصناعة الفن الذى يترك أثرا لا يمحى أبدا مهما مرت عليه السنوات.