فى تمام الحادية عشرة صباحا، وقفت أمام الباب الرئيسى للمتحف المصرى بالتحرير، منتظرا وصولهما، فى آخر اتصال منذ ربع ساعة قالت لى الصغرى إن أمامهما 5 دقائق فقط للوصول، فعاودت الاتصال للاطمئنان، فردت قائلة: "صحيح أننى لا أتحدث العربية، لكن يبدو أننى مصرية أكثر منك، لأنك لا تعرف أن الـ5 دقائق بالمصرى تعنى على الأقل ربع ساعة"، وختمت جملتها بضحكة، قائلة: "لا تقلق، نحن متشوقتان أكثر منك لهذا اليوم الذى ننتظره منذ سنوات".
صورة حرصت عطاء وشيماء على التقاطها أمام المدخل الرئيسى للمتحف المصرى
أعتقد أن الفنان أحمد حلمى ما كان ليفوّت لقاء هاتين الفتاتين، قبل لعب دوره فى فيلم "عسل أسود" منذ 7 سنوات، لو توفرت له الفرصة التى توفرت لنا اليوم، فهما المعادل الواقعى الأكثر إثارة ودرامية من شخصية "مصرى" التى أداها فى فيلمه الشهير، وعلى الأقل تمثلان تجسيدا واقعيا للفكرة التى تخيلها مؤلف الفيلم وترجمها أحمد حلمى تمثيلا.
أحمد حلمى وجواز السفر الأمريكى فى فيلم عسل أسود
الفتاتان الأمريكيتان Ata وShyma اللتان ظلتا تسمعان من والدهما المهاجر عشرات الحكايات عن مصر، وعلى مدار أكثر من عشرين عاما، حمل خيالهما عن مصر ما حمل، وذهبت توقعاتهما عن المصريين خلف ما حكاه لهما والدهما "مدحت" عن أصدقائه وجيرانه وعائلته، واليوم جاء الوقت لكى تريا بأعينهما مصر التى سمعتها عنها طويلا، ولكن بواقعها وحالها و"شحمها ولحمها" كما يُقال.
شيماء وعطاء يشاهدان ريشة هواء إحدى ملكات الفراعنة
قالت الشقيقتان الأمريكيتان من أصل مصرى، إنهما محظوظتان بأن لهما وطنا آخر مثل مصر، بينما رأينا نحن أننا محظوظون لأننا حضرنا معهما هذه اللحظة، وكانت كاميرا "اليوم السابع" بصحبتهما فى هذا اليوم المهم، مشاركة لهما فى اللحظات التى تقف فيها خطوط الخيال والتوقعات عند أبواب الواقع بتفاصيله الحلوة أحيانا، والمُرة فى أحايين، ونعيش معهما ساعات اليوم التى تنقلت فيه تعبيراتهما بين السعادة والاندهاش والمفاجأة والفخر والأسف، والدموع أحيانا.
شيماء وعطاء أثناء الجولة بالمتحف المصرى
فى ثلاث حلقات، ينشر "اليوم السابع" تفاصيل القصة المليئة بالدراما والإثارة، ورحلتنا مع Ata وShyma فى شوارع القاهرة ومعالمها، التى رصدنا فيها بالصور لحظات تمنحك فرصة لرؤية مصر بعين مختلفة، ستكتشف من خلالها أن ملامح مصر تتغير وتختلف باختلاف زاوية الرؤية وعين الرائى، فما قد تراه قبحا قد يراه آخرون جمالا، وما قد تراه نقمة قد يرونه نعمة، وتكتشف أن ما ألفته من باب العادة جريمة عند آخرين، والأهم من ذلك كله أن مصر هانت على كثيرين منا، ولم نعد ندرك قيمتها كما يدركها من لا يعيشون على أرضها، وهو ما يكفى لأن تشعر أحيانا بالخجل من ذلك، لدرجة تجعلك تتمنى لو أن معك "مقشة" لتسير منظفا الشوارع أمام كل زائر لهذا البلد.
الفتاتان الأمريكيتان منبهرتان بكرسى أحد ملوك مصر القديمة
الحلقة الأولى.. عودة الأبناء إلى وطن الأب
فى 1988 قرر مدحت محمد، لاعب الكرة الطائرة السابق بالنادى الأهلى، السفر للولايات المتحدة الأمريكية لأخذ بعض الدورات العلمية، لكنه ودون ترتيب مسبق قرر البقاء هناك، وفى صدفة غيرت مسار حياته، أحب الفتاة الأمريكية باولا سامبسون، وتزوجها واعتنقت الإسلام، وبعقلية المصرى وشخصيته استطاع تضييق الفجوة بين فتاته الأمريكية المنطلقة التى أحبها، والمرأة التى أصبحت بعد عدة سنوات أما أبنائه الـ5، وليس أدل على ذلك من الأسماء التى اختاراها لأبنائهما، عبيد الله، ومنة الله، وأمة الله، وعطاء الله، وشيماء، ومع الأخيرتين قضينا الرحلة الأولى لهما فى القاهرة.
عطاء تصور بكاميرتها التماثيل الصغيرة الموجود فى خلفية كرسى الملك
على باب المتحف المصرى وقفت الفتاتان تحكيان، أكدتا أن أول صدمة لهما فى مصر هى حسابات الوقت والمسافات، واختلافها تماما عما قد يخبرهما به الـGBS، ومع أول خطوة داخل المتحف طلبت "عطاء" التقاط صورة، لكن حماسها للدخول كان أقوى من التصوير، وبالداخل استقبلتنا إحدى الموظفات بترحيب واهتمام، وأرسلت معنا إحدى مرشدات المتحف، وكان اهتمام إدارة المتحف أول مفاجأة سعيدة لنا، لأننا بالفعل كنا نحتاج مرشدا يرافقنا الزيارة.
عطاء تتقمص شخصية ملكة مصرية فى بهو المتحف المصرى
لم تهدأ أعين عطاء وشيماء لحظة على مدار ساعتين قضيناها داخل المتحف، كانت "عطاء" أكثر انبهارا بحكايات مرشدة المتحف عن المومياوات والتماثيل، واهتمام المصريات فى هذا العصر بالجمال والموضة والإكسسوارات والعطور، وأمام فاترينة عرض اكسسوارات إحدى الملكات، نظرت "عطاء" ليدها المليئة بالاكسسوارات، وقالت: "الآن ازددت يقينا أننى مصرية، لأننى أعشق الاكسسوارات مثل هذه الملكة".
انبهار شيماء وهى تشاهد روعة الرسومات الفرعونية على كرسى الملك
عكس "عطاء" المأخوذة بالتفاصيل والمقارنات، كانت "شيماء" أكثر انشغالا بالتفكير فى سر قوة وعراقة هؤلاء البشر، وكيف صنعوا تلك الحضارة وذلك التاريخ الذى لم يتمكن علماء العصر من كشف أسراره حتى الآن، وكيف أن مصر تملك تلك الجذور الممتدة عبر آلاف السنوات، عبرت عن هذا الأمر بعبارات مقتضبة أكثر من مرة، وعبرت عنه فى مرات عديدة بالصمت الطويل كأنها فى جولة حية مع ملوك مصر القدامى.
مررنا بغرفة تلو غرفة بالمتحف، كانت خطوات الفتاتين أبطأ وأثقل منّا، كانتا تقفان طويلا أمام كل لوحة أو تمثال، تستمعان لشرح المرشدة المرافقة لنا باهتمام بالغ، تسألان قليلا، وتنظران وتتعمقان طويلا، تمتد وقفتهما أمام المعروضات من المومياوات والتماثيل وقطع الاكسسوارات والحلى الأثرية طويلا، ثم تنتقلان يخطوات سريعة إلى مكان آخر، وكأنهما تحاولان مسابقة الوقت واستغلال الزيارة لآخر لحظة، فى حرص على ألا ينتهى وقت الزيارة إلا وقد شاهدتا واستمتعتا بكل ما فى المتحف.
وقفت "عطاء" طويلا عند جمال ملكات مصر القديمة، وأمام قوارير العطور الفرعونية، تساءلت كثيرا وأبدت دهشتها أكثر، متعجبة من أن هؤلاء النساء اهتممن حتى بالعطور قبل آلاف السنوات من الآن، وبتلقائية شديدة سألت: "ما هو اسم هذا العطر الموجود؟"، فأجابت المرشدة بأنه غير معروف، فقالت: "بالتأكيد له اسم"، فرددت ضاحكا أمام شغفها بمعرفة الاسم: "للأسف لن تستطيعى البحث عنه فى فيكتوريا سيكريت".
تركنا مكان العطور إلى مكان آخر، ودائما فى كل تحرك من أثر لآخر كنا نكتشف أن عطاء وشيماء لم تتحركا معنا، وأصبحت فى كل مرة أنادى عليهما أقول "تحركا، فما زال أمامكما كثير من الاندهاش".
ظلت "شيماء" تحاول معرفة مزيد من المعلومات عن تاريخ وأسرار تلك التماثيل والشخصيات، تريد معرفة من اكتشف هذه الكنوز، وكيف تم نقلها، وهل هى آمنة أم لا، محاولة أن تستوعب الفارق بين ما كانت تسمعه عن آثار مصر القديمة فى السابق، وما تراه عيناها الآن من عظمة وإبهار، أكبر وأكثر تأثيرا بعشرات المرات مما سمعت عنه.
انبهار "شيماء" بالمعرفة أخذ بُعدا آخر لدى "عطاء"، كانت منبهرة وشغوفة أيضا، ولكن بالانتقال بين المشغولات الذهبية والحلى، ومطالعتها وتأملها، حتى تغير اهتمامها فجأة عندما وقفت أمام المومياء المحنطة للملك رمسيس الثانى، مندهشة من احتفاظها بتفاصيلها حتى الآن، الأسنان والأظافر والرموش، إلا أن اهتمام فنانى وملوك مصر القديمة بالتفاصيل أعاد عطاء لهوايتها سريعا، ليتركز اهتمامها فى مومياء رمسيس الثانى، على شعره الأصفر، وتسأل المرشدة "لماذا هو بهذا اللون؟"، فأخبرتها أنه كان يضع عليه حناء، فوقفت عطاء تنظر لمومياء ملك مصر لوقت طويل وبانبهار لا حدّ له، وكأنها خرجت من العالم لتقف فى حضرة رمسيس الثانى وهو على عرشه فى مصر القديمة.
قبل ساعتين ونصف الساعة من انتهاء زيارة المتحف، كانت مصر بالنسبة للفتاتين هى زحمة المرور وعشوائية الطرق، وداخل المتحف اكتشفا أن مصر أكثر اتساعا وعمقا من ذلك، وأن خلف هذا الشعب وتلك الشوارع، التى تبدو مزدحمة ومرتبكة بالفوضى، 7 آلاف عام من الحضارة والتنوير والتقدم وقيادة العالم، لم يستطع العلم بكل تفنياته وأدواته أن يفك أسرارها بشكل كامل حتى الآن.
أثناء الجولة بالمتحف المصرى
فى نهاية الجولة بالمتحف، وبعدما انصرفت المرشدة السياحية، وقفت شيماء وعطاء تتهامسان، فسألتهما إن كانتا تريدان رؤية شىء آخر، فقالتا فى خجل إنهما تريدان معرفة اسم المرشدة، وسألتا عنه، فابتسمت فى خجل وقلت لهما إننى للأسف لم أسألها، فنظرتا لى باندهاش، فقلت لنفسى محاولا ألا يسمعانى: "قد يكون هذا أحد الفروق بيننا وبين أجدادنا، هم سجلوا كل شىء، ونحن أحيانا ننسى حتى الأسماء"، ثم طلبتا منى العودة مرة أخرى لتقديم الشكر لمرشدة المتحف، ولكنها كانت قد اختفت عن أعيننا، فوعدتهما أن أفعل ذلك لاحقا، وانتهت زيارتنا للمتحف المصرى، منطلقين إلى الأهرامات.
عطاء وشيماء
فى الحلقة الثانية غدا..
ما هى الأكلة الشرقية التى قررت شيماء وعطاء أن تأكلاها؟ وماذا حدث لهما داخل غرفة الهرم الأكبر؟ وماذا قالتا عن الطرق فى مصر؟ وما سر رفضهما ركوب الجمل؟ وحكاية سائق "الكارتة" والأستاذ حميدة مشرف الآثار، ورأى الفتاتين فى الفرق بين جواز السفر المصرى والأمريكى، وماذا فعلتا مع قطط وكلاب الشوارع؟ ولماذا تفجرت دموعهما فى خان الخليلى؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة