التحركات الدبلوماسية لا تكفى والتحليلات الاستراتيجية لا تشفى هذه الأيام، فإعادة تشكيل المنطقة من جديد يدخل فيه ثمن إسقاط دول وتكاليف بناء وحقوق للنفوذ والتحكم فى المصير والتوجهات. ترامب مندفع متسرع وبوتين محترف، والعالم إن كان مجموعة المتابعين أو المشاركين فالجميع مترقبون، ففى مباحثات المشير حفتر مع وزيرى الدفاع والخارجية الروسيين فى يناير الماضى على متن حاملة الطائرات الروسية بالبحر الأبيض المتوسط «الأميرال كوزنيتسوف»، استغل المشير حفتر وجوده فى روسيا لإطلاق تصريحات مثلت اختلافا للبعض وإخلالًا من وجهة نظر البعض الآخر بالبيان المشترك بعد لقائه السراج فى فرنسا، لوقف إطلاق النار، والعمل على إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية جديدة، حيث صرح حفتر أن الأراضى الليبية تحرر جزء كبير منها من الإرهابيين، وأنه سيتم مواصلة العمل حتى تحرير كل أراضى الدولة»، فى إشارة غير مباشرة لاحتمال تنفيذ تهديداته باقتحام العاصمة طرابلس، كما وجه انتقادات لرئيس حكومة الوفاق الوطنى، واتهمه بالإخلال بالكثير من المبادئ التى تم الاتفاق عليها بباريس.
من جانبه، شدد وزير الخارجية الروسى خلال لقائه بحفتر على ضرورة تنشيط عملية التسوية السياسية للأزمة الليبية، مبديًا استعداد موسكو للمساهمة فى تحقيق هذا الهدف، كما وجه، أيضًا، انتقادات غير مباشرة للوساطة الفرنسية فى الأزمة، حيث طالب بضرورة «أن تتولى الأمم المتحدة الإشراف على كل جهود الوساطة»، وأنه «لا بديل عن توصل الليبيين بأنفسهم إلى حلول من دون تأثيرات خارجية». وأكد أن خطر التطرف والإرهاب فى ليبيا لا يزال قائمًا، هذا التطور هو ليس تخبطا بقدر ما هو تغيرات فى البوصلة السياسية. ومن ناحيته أكد تقرير «مركز المستقبل الأبحاث والدراسات المتقدمة» بأبوظبى أن الدوافع لهذا التدخل الروسى:
- مزاحمة النفوذ السياسى والعسكرى الأوروبى والأمريكى المتصاعد فى ليبيا من خلال تقديم كل أنواع الدعم لحفتر. ففرنسا تتمتع بنفوذ فى الشرق بتقديمها دعمًا سياسيًّا وعسكريًّا لحفتر، وتزعمها جهود الوساطة مؤخرًا فى ليبيا. وتتمتع كل من بريطانيا وإيطاليا والولايات المتحدة بنفوذ فى المنطقة الغربية بدعمهم السياسى والعسكرى لحكومة الوفاق الوطنى، والقوات التابعة لها منذ عملياتها ضد تنظيم «داعش» فى مدينة سرت أواخر العام الماضى. فضلًا عن بدء روما منذ مطلع شهر أغسطس الجارى نشر قطع بحرية حربية فى المياه الإقليمية الليبية.
- الرغبة فى تأمين مصالحها وتعزيز نفوذها فى ليبيا، من خلال لعب دور محورى فى التسوية السياسية للأزمة الليبية، وتقديم الدعم لحفتر الذى بات يُسيطر على معظم مناطق شرق وجنوب ليبيا بما يحول دون تجاهلها فى أية ترتيبات جديدة للأزمة.
- استغلال تعيين «غسان سلامة» كمبعوث أممى جديد فى ليبيا، وسعيه للتواصل مع مختلف الأطراف الدولية المعنية بالأزمة الليبية لبلورة تصور جديد بشأن حل الأزمة الليبية، يضمن إشراكها فى تسوية الأزمة ومراعاة مصالحها باعتبارها لاعبًا أساسيًّا هناك».
- السعى لاستخدام الملف الليبى ومدى حساسيته للأمن القومى الأوروبى، لتدفق موجات الهجرة غير الشرعية نحو الدول الأوروبية انطلاقًا من السواحل الليبية، واستغلال التنظيمات الإرهابية للفوضى فى ليبيا لإقامة معسكرات للتدريب والإعداد لشن عمليات إرهابية فى الغرب، كورقة ضغط للحصول على تنازلات من الدول الأوروبية فى ملفات أخرى كالأزمة الأوكرانية، والعقوبات الغربية المفروضة عليها.
فى المقابل، يستهدف حفتر من زيارته الأخيرة إلى روسيا تحقيق جملة من الأهداف التى يتمثل أبرزها فيما يلى:
- الاستعانة بروسيا لموازنة أية ضغوط محتملة من قبل فرنسا بصفة خاصة، والقوى الأوروبية بصفة عامة، للالتزام بالنقاط العشر التى تضمنها البيان المشترك الصادر عن اللقاء بالسراج فى باريس فى 25 يوليو الماضى، خاصة أنه قد صرح من قبل بأن كل الأمور التى وردت فى البيان لا يمكن أن تتحقق.
- تأمين مزيد من الدعم العسكرى الروسى للجيش الليبى، سواء كان فى صورة أسلحة أو تدريبات عسكرية أو تعاون استخبارى، حيث إن لدى حفتر قلقًا من استخدام فرنسا دعمها العسكرى له كورقة ضغط لتقديمه تنازلات لخصومه، ومنعه من تنفيذ تهديداته باقتحام العاصمة طرابلس بهدف إنجاح وساطتها فى الأزمة الليبية. وفى هذا الشأن أعلن المشير خلال زيارته إلى موسكو أنه لن يتوقف حتى يسيطر على كل التراب الليبي.
- استكمال هدفه المتمثل فى الحصول على اعتراف دولى بشرعية تحركاته العسكرية على الأرض، والانتصارات التى حققها مؤخرًا على التنظيمات المتطرفة فى شرق وجنوب ليبيا.
- تأمين فيتو روسيا فى مجلس الأمن للحيلولة دون صدور أية قرارات من المجلس ضد الجيش الوطنى الليبى، خاصة فى حال تنفيذ تهديداته باقتحام العاصمة الليبية طرابلس.
التحركات المستقبلية: من المرجح إقدام روسيا خلال الفترة المقبلة على مجموعة من الخطوات تجاه ليبيا يتمثل أبرزها فى الآتى:
- زيادة دعمها السياسى والعسكرى لحفتر باعتباره الحليف الأساسى لها فى ليبيا فى مواجهة التنظيمات المتطرفة، والأداة الأساسية لموازنة النفوذ الأمريكى والأوروبى فى طرابلس.
- تعزيز قنوات الاتصال مع قوى الغرب الليبى ممثلة فى حكومة الوفاق الوطنى التى بدأتها باستقبال رئيسها «السراج» فى مارس 2017، وذلك تمهيدًا للعب دور مستقبلى أكبر فى تسوية الأزمة الليبية يوازن الدور الأوروبى، وذلك بعدما تركت فى السابق القوى الغربية تنفرد بإدارة ملف التسوية السياسية للأزمة.
- مزاحمة الوجود العسكرى الأوروبى بمنطقة البحر الأبيض المتوسط المتمثل فى العملية العسكرية البحرية الأوروبية «صوفيا» قبالة السواحل الليبية.
وفى الختام، تستهدف التحركات الروسية الأخيرة تجاه الأزمة الليبية بالأساس تعزيز نفوذها فى ليبيا بصفة خاصة وفى منطقة البحر الأبيض المتوسط بصفة عامة، بما يجعلها لاعبًا أساسيًّا فى ليبيا ومنطقة شمال إفريقيا، وهنا ندرك أهمية نجاح التحركات والأنشطة التجارية والمستمرة على مدى العام من جانب مصر على مستوى القارة الأفريقية وأهمية العلاقات المتوازنة المرتبطة بمفاتيح وأدوات تنعكس على مصالح أمريكية مرة وروسية مرات أخرى وأهمية رصد الأمواج الاقتصادية التى قد تغير من المزاج الأوروبى التى تظهر على السطح فى المرحلة المقبلة.. والأهم عدد من الصراعات والتناقضات الداخلية التى تشهدها هذه الإدارة الأمريكية التى تنقلب فيها المصالح والأوليات فى لحظات وتنعكس على ايجابية البوصلة السياسية فى اتجاة مصر ودوّل على حددوها إن كانت ليبيا أو عمق أفريقيا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة