أشاد «الغرب» بإغلاق وزير الداخلية الألمانى صفحات المتشددين اليساريين، وأدان «الغرب» إغلاق مصر صفحات الترويج للإرهابيين، ليس الأمر مجرد مكيالين ولا ثلاثة ولا حتى عشرة، ولكنه حالة من الازدواجية والتخبط والترصد، فالغرب الذى يدعو ليل نهار لمحاربة الإرهاب، يرى الإرهاب فقط عندما يقترب من بلاده، ويهدد حياة مواطنيه، أما إذا اقتحم بيوتنا وبلادنا، فلا ضرر ولا استنكار، بل ممالأة ونفاق وتأييد.
الغرب هو الذى صنع الإرهاب فى بلادنا، وروج له ودعمه مادياً ومعنوياً، على أمل أن تظل تلك الكيانات التدميرية شوكة فى ظهر الدول المستهدفة، يحركها فى الاتجاه الذى يريده، فتخلق الألم والوجع وتسيل الدماء وتدمر الحياة، فأمريكا هى التى صنعت القاعدة فى أفغانستان، ووظفتها للقضاء على الشيطان الروسى الأكبر، ودربت عناصرها وكوادرها وأمدتهم بالمال والسلاح، أمريكا هى التى احتوت بن لادن والظواهرى، وقامت بتهريب عمر عبدالرحمن إلى بلادها، قبل أن تسجنه لأنه اقترب من أمنها.
الغرب هو الذى يوظف الجماعات الإرهابية كيفما يشاء، فكما كانت القاعدة المعول الذى حارب الروس فى أفغانستان، تحركت تلك الجماعات الإرهابية لتهدم دولها وتقتل شعوبها، بإشارات جاءتها من الغرب، فانقضُّوا على سوريا، وحولوا شعبها الطيب إلى لاجئين، وهدموا حضارة شعب وعراقة أمة، وتحركت جحافل الشر فى ليبيا وتونس واليمن والعراق، بإشارات أصابع الغرب، وأرادوا أن يستكملوا مسلسل الشر فى مصر والخليج، ولكن عناية الله كانت فوق أيديهم.
لا تحسبوا الجحيم العربى المسمى بالربيع مجرد صدفة، أو بحث عن الكرامة الإنسانية والعيش والحرية، ولا من أجل إعلاء شأن حقوق الإنسان، وتثبيت دعائم الديمقراطية، فهذه المعانى الجميلة والعبارات الرائعة إبداعات غربية، لتغليف مطامع سياسية ونوايا عدوانية، فحقوق الإنسان- مثلاً- لا تأتى أبداً باغتيال الإنسان وتهجير الشعوب وهدم المدن والقرى، فهذه هى الحقوق التى جاء بها الغرب لبلادنا.
الغرب يطلق مارد الإرهاب، ولكن لا يتحكم فى مساره، وكما يقولون: «فى زمن الحرب يعرف الجميع من أطلق الرصاصة الأولى، ولكن لا يعلم أحد من يطلق الرصاصة الأخيرة»، التى غالباً ما ترتد إلى الغرب نفسه، وليكن لهم فيما حدث فى 11 سبتمبر فى أمريكا عظة وعبرة، فنفس الشبح الذى صنعوه هو الذى انقض على بلادهم وهدم برجى التجارة، وكاد يدمر أكبر دولة فى التاريخ، وحبس العالم أنفاسه انتظاراً لما تسفر عنه الأحداث.
الغرب لم ولن يتعظ من التعامل مع الجماعات الإرهابية، ويعرف فقط كيف يطلقها، ولكنه يجهل سرها، وهو أنها تعتبر الغرب عدوها الأول، رغم أنه ينشئها ويرعاها ويسدد خطاها، ويجعل عقيدتها الإجرامية هى القتل بأسوأ أنواعه، لإثارة الفزع والخوف والرعب فى النفوس، وما تفعله داعش من انتهاكات إنسانية، لخير دليل على أن تلك الجماعات أبعد ما يكون عن الأهداف التى أطلقها الغرب من أجلها، فهو أطلقها لتكون سلاحه فى التدمير، ولكن ليس بهذا الحجم من البشاعة، لقد جاءوا من عصور الوحشية فى زمن يدعى فيه الغرب أنه حارس الإنسانية.
الغرب لا يعنيه إلا الغرب، ولا يهمه إلا مصالحه، ولا يسعى لحليف إلا وكان وراءه هدف، لذلك لا تستغربوا أن تقطع أمريكا جزءا من المعونات عن مصر، ويعقبها هجوم غير مبرر من وزير الخارجية الأمريكى، ثم يلى ذلك اتصال ودود من ترامب للسيسى، يدعم فيه دور مصر، ويؤكد حرصه على تطوير العلاقات، فبأى معيار يمكن تفسير ذلك؟
الغرب يقيم الدنيا ولا يقعدها إن وقع حادث- مثلاً- لأقباط مصر، بينما غض الطرف عن قيام داعش بقتل واغتصاب المسيحيات فى العراق، وبيعهن فى أسواق النخاسة، ولم يصدر بيان استنكار، ولم يطلق عبارة شجب، وكأنه أمر عادى، أن تنتهك الأعراض، وتبقر البطون وتقطع الرقاب، لأن الغرب هو الذى صنع هذا الوحش الكاسر، وأطلق عنانه، لتحقيق أهداف سياسية، ولا يعنيه أن تُدهس مبادئ الإنسانية.
وزير الداخلية الألمانى لم يغلق المواقع الإرهابية، ولكنه أغلق صفحات المتشددين اليساريين، فى مجتمع من المفترض أنه لا يعرف حدوداً للديمقراطية، ويطلق عنان الحرية، ولكن عندما يتعارض ذلك مع مصالحهم، فلا حرية ولا ديمقراطية ولا حقوق إنسان، ولكن هم ينظرون إلى دولنا وشعوبنا بعين أخرى، ويستنكرون علينا حقوقاً هم أول من يبادرون بالدفاع عنها، فى بلادهم فقط.
الغرب لا يجد حرجا فى أن تنزل جيوشهم إلى الشوارع لمجابهة أى حادث إرهابى، ويغلقون الطرق ويمنعون الإعلام من الاقتراب، ويفرضون قبضتهم الحديدية على مسرح الأحداث، لكنهم يرون ذلك عيباً ونقيصة إذا حدث فى بلادنا، ويحذرون من انتشار العسكر وتهديد الحياة المدنية وقمع الحريات، وسبحان الله.. هل عسكرهم وجيوشهم هم رسل للرحمة وحقوق الإنسان؟
الغرب حوَّل بلادنا إلى مناطق فوضى وشعوبنا إلى فئران تجارب، وجرَّب فى العراق أن يخلق نموذج دولة بلا جيش ولا أمن، فقضى على الجيش العراقى وقوات الأمن، وجلس يتفرج على نتائج التجربة، فرأى الجماعات الإرهابية تقضم الأرض والبشر قطعة قطعة، بشراسة وعنف ودموية، ويالها من مسرحية مسلية، تشبه صراع الديوك ولا تنتهى إلا بسقوط أحدهما سريعا، وقرر أن يطور التجربة بديوك متعددة ومتفرجين أكثر عدداً، وأدخل فى أتون الفوضى الخلاقة دولاً أخرى وشعوباً أكثر عدداً.
لا تستغربوا تصريحات وزير الداخلية الألمانى، الذى يتباهى بقدرته على غلق صفحات المتشددين اليساريين، فهذا ما عهدناه من دول تعظِّم شأن شعوبها، وتهدر حقوق الشعوب الأخرى، ففى بلادنا تنتهك مواقع التواصل الاجتماعى خطوط الأمن والاستقرار، وتنشر منصات الاغتيال الإلكترونى بعدد يفوق كل الموجود فى أوروبا، ويتم توظيف بعضها فى دعم الإرهاب والكيانات الإرهابية، الأمر لا يتعلق بحرية أو ديمقراطية أو ممارسات حقوقية، الأمر فقط هو استقرار البلاد وسلامتها، بنفس المعايير التى من أجلها أغلق وزير الداخلية الألمانى الصفحات اليسارية.