تقول الحكايات التاريخية: إن الإمام جمال الدين الأفغانى كان يتأمل دائمًا فى عزة نفس وأخلاقيات تلميذه محمد عبده، ثم يسأله بين الهزل والجد: ابن أى الملوك أنت؟ وهذه الجملة الجوهرية تصاحبنى دائما فى حضرة المحترم الكاتب العالمى نجيب محفوظ بقيمه وسماته، التى اختارها لتكون مصاحبة له ومكونة صورة بصرية عنه يعرفها الجميع.
لا يستطيع أحد أن يزايد على الروح الجميلة التى سكنت نجيب محفوظ، وجعلت جلساته بين أصدقائه أو حضوره فى برنامج تليفزيونى مبهجًا بالقدر نفسه الذى تحققه قراءتنا لملحمته العظيمة الحرافيش.
وفى المقابلة الأخيرة، التى أجرتها ابنته أم كلثوم مع منى الشاذلى فى أحد البرامج التليفزيونية، كان قدر كبير من شخصية نجيب محفوظ يتضح أمامنا ويتشكل وابتسامة منه تطل علينا، وحتى الآن لا أتخيل كيف أنه يوم علمه بالحصول على جائزة نوبل سنة 1988 ذهب لمقابلة شلة الحرافيش حسب الميعاد، ولم يبحث عن الشو الإعلامى، وغير ذلك من الأمور التى استحدثها الخبر الكبير، لا أستطيع تخيل ذلك لأنه يحتاج إلى مجاهدة عظيمة، ونفس راضية تملك فلسفتها الخاصة فى الأشياء المحيطة بها.
حتى مسألة قلادة النيل التى أثارتها أم كلثوم فى البرنامج، فهى تحمل فى داخلها قمة الإحساس بالذات وبالقيمة الحقيقية، لم يكن نجيب محفوظ يغالب نفسه، ولم يكن الخجل هو الذى يمنعه من فعل الأشياء، لكن كان إدراكه التام للحقيقة، وهذه حكمة لا تأتى إلا لأصحاب النفوس العظيمة.
حكايات كثيرة فى تاريخ نجيب محفوظ تؤكد أنه يعرف ما يريده تماما، ويسعى إليه ليس بمكر لكن بمحبة تامة، خاصة أن ما يريده لا يتقاطع مع مصالح الآخرين، بل هو يبعد كل البعد عن المصلحة بشكل ما سوى مصلحة «الرضا النفسى» التى حرص عليها طوال حياته.
كان الرجل يعرف جيدا معنى الحياة بالنسبة له، فرتب قيمها حسب ما يرضيه ويسعده، ثم ترك تكالب الناس على صغائرها، وراح يتأمله ويحوله إلى فن يدوم حتى لا تتحول الشخصيات الغريبة والمختلفة والمتناقضة التى التقاها فى حياته إلى مجرد كائنات، بل دخل بها منطقة «الخلود» فى رصد فلسفى عظيم لواقع كان نجيب محفوظ يشاهده من خلف مكتبه.
ربما الغريب فى نجيب محفوظ أنه كان زاهدا فيما فى أيدى الناس، لكنه كان نهما للفن لا يشبع منه أبدا، والفن هنا ليس المقصود به الكتابة فقط، لكن استقباله لكل ما يصنع الصفاء للروح والبحث عن بعض المتع الصغيرة، التى تجعل الإنسان فى حالة من الرغبة فى الاستمرار والابتعاد عن الشكوى والجأر بالمآسى طوال الوقت.
ظل نجيب محفوظ مصرا على أن يملك قدرا من التسامح، الذى يظنه البعض غريبا ومبالغا فيه، لكنه فى الحقيقة ليس كذلك، لقد كان محفوظ يفعل ما تمليه عليه ذاته المحبة للخير والمتصالحة والمؤمنة بنقص النفس وعيوبها.
لقد تعرض نجيب محفوظ للتجربة، لكنه نجح بامتياز فيها، امتلك الشهرة لكنه لم يسقط فى عبوديتها أو يسمح لها بأن تكبل أجنحته، وفى نهاية حياته امتلك المال، لكنه لم يكن فى حاجة ملحة إليه فتركه، واستعاض عن كل ذلك بأحلامه، فعاش ملكا حقيقيا على هذه الأرض.