«أنا الأرض/ والأرض أنت/ خديجة! لا تغلقى الباب/ لا تدخلى فى الغياب/ سنطردهم من إناء الزهور وحبل الغسيل/ سنطردهم عن حجارة هذا الطريق الطويل/ سنطردهم من هواء الجليل»
.. تمر اليوم الذكرى التاسعة لرحيل شاعر فلسطين الأشهر محمود درويش، الذى منحته القضية الفلسطينية ثقلًا، ومنحها قدرة على المقاومة.
لم يكن درويش مجرد رجل يملك موهبة الشعر، لكنه كان يحمل قضية كاملة لأمة مظلومة، تعرضت لمحنة طال وقتها، تخلى عنها الكثيرون، وشكك البعض فى وجودها أصلًا، لكن الله قيض لها أبناءها، يسجلون حالها ومعاناتها بالشعر والسرد، وكان محمود درويش أول الموهوبين الذين جعلوا قضية فلسطين عالمية يعرفها القاصى والدانى.
لم يغب محمود درويش يومًا عن ساحة القضية، وطوال السنوات التسع التى رحل فيها جسده كان شعره الذى هو روحه لا يزال قادرًا على صنع المقاومة، ومنح القضية قبلة الحياة الدائمة التى تحتاجها، ففى كل التظاهرات والانتفاضات الفلسطينية كان الشعر حاضرًا مثل بندقية لا تنفد ذخيرتها أبدًا.
لم يكن محمود درويش يتاجر بالقضية أو يتكسب منها، كانت هاجسه المفزع، ورغبة شعره الحقيقية، لذا خرجت كتاباته صادقة مشغولة بالتفاصيل الإنسانية الدقيقة التى تمنح القصيدة القدرة على الاستمرار.
تحولت القضية على يد محمود درويش إلى قضية إنسانية كبرى، وأصبحت إحدى مآسى العصر الحديث، وأصبح المنخرطون فيها والمدافعون عنها جزءًا من ملحمة عالمية عن العدل والحق.
وما نقوله يؤكده كون محمود درويش لا يزال هاجسًا يؤرق جيش الاحتلال الإسرائيلى، وفى السنوات الثلاث الأخيرة صرخ وزير الدفاع الإسرائيلى من الغضب، وطالب بالتحقيق بعدما أذاعت الإذاعة أغنية معتمدة على كلمات «هوية عربية» لمحمود درويش، أما وزيرة الثقافة، ميرى ريجيف، فقد خاضت للمرة الثالثة على التوالى معركة ضد شعره، لدرجة أنها تركت حفلًا كبيرًا لتوزيع جوائز فنية من أجل كلمات محمود درويش، مما يدل على أن الشعر باقٍ لا يموت أبدًا.
هذا هو محمود درويش، وهذه هى موهبته التى جعلته حيًا دائمًا، لكن القضية الفلسطينية باقية لم تنته، وتحتاج إلى شعراء وكتاب جدد يؤرقون العدو بما يكتبون، ويأخذون على عاتقهم همّ وطن مهدد طوال الوقت.
والشاعر المرجو لحمل القضية الفلسطينية عليه أولًا أن يدرك دوره تمامًا، فيتخلى طواعية عن انعزاله وغربته، وأن يكتب قصائده من الشارع الفلسطينى المعرض لانفجار الوضع فى أى لحظة، ثانيًا على هذا الشاعر أن يكتب ما يجعله متواصلًا مع الجمهور دون أن يتخلى عن الفن، وهى معادلة صعبة، لكنها ممكنة، فعلها من قبل أمل دنقل، ومحمود درويش وغيرهما الكثيرون، كما يجب أن تكون هناك آلة إعلامية قوية خلف الشاعر تقدمه بصورة جيدة، ليس على المستوى الثقافى فقط، لكن على المستوى الجماهيرى أيضًا.
القضية الفلسطينية تحتاج منّا الكثير، وصناعة شاعر لها جزء أساسى من الحرب الطويلة بين الحق والباطل، ومحمود درويش وزملاؤه قدموا المطلوب منهم، وعلينا أن نفعل ذلك.