الشعوب لا تتقدم بالارتجالية والتسيب والفوضى، ولكن بالعمل والانضباط والحزم والتضحية.. والصين التى تستعد لاحتلال صدارة دول العالم اقتصاديًا، وتزيح من أمامها أمريكا واليابان، لم تصل لذلك مصادفة، ولكنها دولة كانت تحت خط الفقر منذ مائة عام، وكان شعبها يتعاطى المخدرات، ونساؤها يحترفن التسول والدعارة.. أصبحت الآن دولة الإبهار، وشبابها زهور متفتحة فى كل مكان.
فى مؤتمر بريكس، الذى انتهت فعالياته منذ عدة أيام، استعرضت الصين عضلاتها، فى التقدم والتنظيم والانضباط، وفى مدينة شيامن الرائعة، أقصى جنوب شرق الصين، بالقرب من تايوان، كان كل شىء معدًا تمامًا لإخراج الحدث الكبير فى أجمل صورة.
الصينيون لا يعرفون «الهزار»، خصوصًا فى المسائل الأمنية، وكل خطوة محسوبة بدقة وتنفَّذ بصرامة، ففى الفندق الذى أقام فيه الوفد الصحفى بلغت إجراءات الأمن ذروتها، الدخول والخروج بنفس الإجراءات المتبعة فى المطار، من خلع الحزام حتى الحذاء والساعة والمحفظة وكل شىء، ثم يعقب ذلك مجموعة من الشباب والفتيات مدربين تمامًا على فحص الأشخاص من الرأس حتى القدمين، بسلاسة وبساطة وسهولة وابتسامة واسعة، وإذا خرجت من بوابة الأمن على مدخل الفندق، ثم دخلت مرة ثانية، تخضع لنفس الإجراءات بلا مناقشة.
فى مدينة المؤتمرات الرائعة نفس الإجراءات الأمنية، وللوهلة الأولى تدرك أن الصين دولة جددت شبابها، فوق العشرين بقليل، كل الأمن شبابًا وفتيات صغار السن، وكأنهم تلاميذ فى ثانوى أو طلاب فى الجامعة، يندر أن تجد من هم فوق الأربعين أو الخمسين، يتحركون وفقًا لخطط مدروسة بعناية ويعرفون ماذا يفعلون، والكل يخضع للتعليمات بهدوء، ولم نجد أحدًا يفعل مثل بعض نوابنا المحترمين، الذين رفضوا التفتيش فى المطار بعد عودتهم من الحج، وقالوا العبارة الخالدة «إنت مش عارف أنا مين»؟
الصين أرادت أن تقول للعالم «نحن هنا»، وجهزت مركزًا للمؤتمرات لم أجد له مثيلا فى كل الدول، التى زرتها، ويفوق فى إمكاناته مركز مدينة «كان» الفرنسية، الذى يشهد فعاليات مهرجانها الشهير.. عدد أجهزة الكمبيوتر مذهل ويفوق الألف أو الألف وخمسمائة جهاز، من أحدث الأجهزة فى العالم، والصالة مضيئة ومبهجة وتتوزع فيها المقاعد بشكل يسمح بالراحة وحرية الحركة والعمل بهدوء.. وكأنها خلية نحل يعرف كل من فيها دوره.
كانت المفاجأة فى المطعم الكبير، الذى جهَّزته إدارة المؤتمر، ويشبه إلى حد كبير الصالة المغطاة فى استاد القاهرة، فقد حذرنا البعض قبل السفر من عدم الانسجام مع الطعام الصينى، وحملنا معنا كميات من المعلبات، كان مصيرها تركها لعمال الفندق، لأن المطعم الصينى فى المؤتمر كان رائعًا، وفيه كل الأصناف التقليدية، التى نتناولها فى مصر، سواء اللحوم أو الأسماك والخبز وغيرها، ويسع المطعم أكثر من ألف شخص فى نفس الوقت، دون أن يضطر أحد للوقوف لحظات أمام البوفيه المفتوح.
شوارع مدينة شيامن تحتاج للدراسة والتحليل، وأنصح محافظ القاهرة أن يرسل بعض مستشاريه إلى المدينة، ليدرسوا كيفية تنظيمها وتنظيفها، وكيف تم إغراقها بكل هذا الحجم من الأشجار والخضرة، رغم صعوبة الجو وارتفاع الرطوبة، فالشوارع الجانبية صممت لتكون على شكل مداخل الغابات، محاطة بالأشجار بمختلف أنواعها، ويتم عمل غابة صناعية فى كل منطقة، وناطحات السحاب تشبه اللوحات الجميلة التى، نشاهدها على الكمبيوتر، تضىء من شدة نظافتها وأشكالها الهندسية، التى تم تصميمها بمهارة، وكأن المدينة كلها لوحة رسمها فنان بارع.
يبدو أن شيامن تتعرض لأعاصير ورياح عاتية، لأن اللافت للنظر هو إحاطة كل شجرة بدعامات من عروق الأخشاب، وكأنها أحزمة لحمايتها من السقوط، كم شجرة فى هذه المدينة تتم حمايتها بهذا الشكل؟.. عدد كبير ومذهل يلفت النظر ويستحق الإشادة والإعجاب، لأنه من المؤكد احتاج لأعداد هائلة من البشر، وكميات ضخمة من عروق الأخشاب، لحماية كل أشجار المدينة. فى الصين يعملون حسابًا لكل شىء، وبمجرد وصولنا إلى المدينة أطلقوا خدمة إنترنت مجانية دولية، تخدم كل رواد المؤتمر فى الأماكن التى تشهد الفعاليات، ابتداءً من المطار حتى الفندق ثم قاعات المؤتمر كلها، إنترنت يفوق الطلقة والصاروخ وغيرها من المسميات، التى نسمعها فى مصر، يسهلوا على كل الحاضرين مشقة اللجوء للباقات الاحتيالية، التى تتكلف مئات الجنيهات.
الصين، التى يصل تعداد سكانها إلى مليار و800 مليون نسمة، لم تصل لتقدمها المذهل مصادفة أو بضربة حظ، ولم تنشق أرضها عن آبار بترول تضخ فى عروقها ثروة بلا عمل، ولا مناجم من الذهب والمعادن النفيسة، ولكن ثروتها الحقيقية فى البشر، وفى شعبها الذى تم إعداده وتجهيزه بمنتهى الجدية والانضباط، وإذا لم يفعلوا ذلك لم يكن فى وسعهم أن يديروا دولة بمثل دقة الساعات السويسرية. الصينيون لا يعرفون المستحيل ولا يعترفون بالمعجزات، وعندما واجهوا مشكلة تزايد السكان بمعدلات لا تخدم خطط التنمية، قرروا تعقيم جيل بأكمله، ثم بدأوا بعد ذلك فى تحديد النسل بطفل أو طفلين على الأكثر، وهناك لا أحد يعرف التحايل أو الخداع، وليس فى قوانينهم سيدة يمكن أن تزعم أنها نسيت أن تأخذ أقراص منع الحمل.
وعندما واجهوا المخدرات، كان الإعدام هو الحل، وفى إشارات المرور يقترب الضابط أو الجندى من سائق التاكسى أو السيارة، ويعطيه ورقة صغيرة يضعها فى فمه للكشف عن المخدرات، وإذا تغير لونها.. بالسلامة.. الإعدام، ونقل أعضائه لأحياء يستحقون فرصة أخرى فى الحياة.
وتخلص الصينيون من مشكلة العشوائيات ببراعة، وعندهم معرض اسمه بكين 2050، فيه مجسمات للعاصمة الجديدة، والأحياء، التى تتم إزالتها، بجدول زمنى دقيق، ويخير سكان تلك المناطق بين التعويضات بأسعار السوق، وليس بالبخس، كما يحدث عندنا، وبين الانتقال إلى مساكن بديلة، حتى يتم الانتهاء من تشييد المبانى الجديدة، وينتقلوا إليها، ويحدث ذلك دون صراخ أو خيام أو كاميرات تنقل عذابات المجبرين.
الدول التى تتقدم لا تنافق شعوبها، ولا تدلل الفاشلين والفاسدين، وإنما تضبط إيقاع حركتها على منظومة من الجدية والانضباط والالتزام.. وما أجمل أن يستمتع الناس جميعًا بالاحتماء بمظلة العدالة والقانون.