الظواهر الثقافية ليس لها شكل واحد، لكنها تتجلى بطرق مختلفة، منها ما نقبله ومنها ما دون ذلك، ولنا أن نتأمل ما يفعله الآخرون الذين نخرج أعمالهم بذائقتنا من دائرة الإبداع، فربما توجد فكرة ما وربما لا توجد.. وفى ذلك يأتى كتاب «مات الكلام» لحسن الحلوجى.
على حد علمى الكتاب لم يصدر حديثًا، لكنه صدر عن دار «الياسمين» سنة 2014، أى أن له ثلاث سنوات فى سوق الكتب، وهو كتاب يتكون من 104 صفحات «فارغة»، ليس فيها كلام، فى بعضها رموز وخربشات، اعتبرها الكاتب محاولة للاعتراض على الابتذال والحالة المتردية فى الكتابة فى الوقت الراهن، وهذا حقه، وليس من حق أحد مصادرة ما يفعله، لكن علينا أيضًا ألا نعتبر الموضوع أكثر من مجرد «فكرة ظريفة».
بالطبع ليس ما فعله حسن الحلوجى جديدًا كما يتراءى للبعض أن يقول، فإن هذه الطريقة فى لفت الانتباه قد حدثت كثيرًا، لدرجة تكاد تخرج بها من دائرة التميز، بعدما تحولت لأمر اعتيادى وطريقة مباشرة أحيانًا تكون مملة، ويكفى أن نقرأ ما كتبه الكاتب الكبير إبراهيم عبدالمجيد على صفحته على موقع التواصل الاجتماعى، حيث ذكر أكثر من مثال، ربما أقواها ما نقله عن الدكتور الراحل الكبير عبدالقادر القط بأن كاتبًا بلجيكيًا نشر كتابًا خاليًا من الكلمات، ثم عقد له ندوة ظل فيها جالسًا صامتًا لا يتحدث.
ولا يخفى على أحد كذلك ما حدث فى عام 2011 عندما نشر البروفيسور شريدان سيموف كتابًا بعنوان «الأمور التى تشغل كل رجل.. إلى جانب التفكير فى الجنس»، لا يحتوى على أى كلمة، ووصل هذا الكتاب إلى قائمة الكتب الأكثر مبيعًا، ولنا أن نتوقف أيضًا فى أن كتاب حسن الحلوجى «مات الكلام» مر بسلام منذ صدوره، ومؤخرًا فقط بدأ الحديث عنه والاختلاف عليه.
ومن جانب آخر، يتعلق برؤية حسن الحلوجى، التى ذكرها فى تصريحات صحفية، بأنه بهذا الكتاب يعترض على ما يحدث فى الوسط الكتابى، حيث البيست سيلر الذى يعلى من كتب لا قيمة لها ويفرضها علينا، ففى ظنى أن مواجهة هذا الأمر لا تكون عن طريق كتاب بلا كلمات، لكن يكون بكتابة عمل مميز يغير من الحال المتردى، والدليل أن هناك الكثير من الكتب الجيدة لا تزال قادرة على المقاومة وفرض كلمتها. فى الحقيقة، أنا لا أفهم المقاومة بالسلب، مثل أن يتوقف البعض عن الكتابة بدعوى أن الوضع الثقافى لا يشجع على الكتابة والقراءة، أو أن يفعل البعض ما فعله حسن الحلوجى فى كتابه «مات الكلام»، لأن المعركة بين الجيد والردىء أكبر مما نتخيل، وهى معركة قديمة، والأجيال المختلقة على مر العصور واجهت القبح الكتابى بالكتابة الجميلة الجيدة القادرة على الوصول إلى الناس عبر الزمن، وتحدى كل شىء ظاهرى.
ومع ذلك يحتفظ حسن الحلوجى بحق أن يفعل ما يشاء، لكن ليس له الحق أن يحدثنا عن قيمة ذلك، والمغزى من ورائه، فنحن بحاجة لكتاب حقيقى مفيد، وليس مجرد ابتسامة لطرافة الفكرة.