عزيزى «نصير شمّة»: «تِهْ موسيقًى فأنتَ أهلٌ لذاكَ.. وتحكَّمْ فالفنُّ قد أعطاكَ».
ولستُ أدرى لماذا واتانى «عمر بن الفارض» لأشتبك مع أحد أبياته بتصرّف، وإن كسرتُ شيئًا فى شطره الأول، وأنا أُنصِتُ إلى هذا العراقىّ المبدع، قبل عام، وهو «يرتجل» أمامنا نغمًا من تأليفه ليشرح لنا مسألة موسيقية دقيقة فى «بيت العود» بأبى ظبى! ثم باغتنى البيتُ الصوفىّ الجميل نفسُه، وأنا أنصتُ إليه الخميس الماضى فى المجلس الأعلى للثقافة، يشرح لنا، أمام لجنة المحكّمين، رسالته العلمية المبتكرة حول «الأسلوبية فى الموسيقى». هل ارتبط اسمُ هذا الموسيقار فى ذهنى بالتصوّف لأن له منزعًا صوفيًّا فى العزف والتأليف الموسيقى لا تُخطئه الأذن؟ أم هل بسبب ولعه المدهش، وتواصله العميق، بالمتصوفين الشعراء كالحلاج والسهروردى وابن عربى وغيرهم، مما نلمس فى حواراته وموسيقاه، ما يجعلنى أضعُ موسيقاه دائمًا فى خانة التصوف الموسيقى؟ أم لأن إغراقه فى قراءة الأدب بشكل عام، والشعر بشكل خاص، جعله «يغار» من غزارة المدارس النقدية الأدبية، فى مقابل «شُحّها» فى دنيا النغم، ما جعله يحفر جدولا، لم يسبقه إليه أحد، يغذيه بماء البحث والترصّد والتربّص بعظماء الموسيقى، يطارد ظلال الأسلوبية والفردانية فى نغماتهم، حتى ينحت فى معجم الأدبيات الموسيقية مادةً علمية جديدة، أطلق عليها اسم: «الأسلوبية موسيقيًّا»، سوف تنمو مثل شجرة وارفة، مع تواتر الباحثين والدارسين من أبناء النغم الجميل؟ لماذا هناك بنيوية وتفكيكية وإحصائية وأسلوبية، وغيرها من «مخالب» النقد الأدبىّ، التى تنشب نِصالَها فى أجساد النصوص لتفكك أوصالها وتُشرِّح مفاصلها حتى تُخرج نُسغَها ورحيقَها، بينما لا نجد مثل تلك المخالب القنّاصة فى غابات الموسيقى المشتجرة؟! هكذا تلفّت الفتى حوله فى حقول النغم، فلم يجد! فراح يفتّش فى المدونة الموسيقية منذ قرون باحثًا عن «مخلب» الأسلوبية. واعترف المايسترو أن ما استفزّه وأثار غَيرته من الآداب والشعر، كتابٌ وقع فى يده لكبير النقّاد العرب د. صلاح فضل حول «علم الأسلوب»، فحاول أن يطبّق منهجه الأدبى على الموسيقى، علّه يجد طريدتَه أو يلمح ظلالها. اختار ثلاثةً من أساطين النغم تُمايزُ بينهم الجغرافياتُ والتاريخ، وتجمعُهم الريشةُ والوتر، فريدريك شوبان من بولاندا يمثل الغرب، ناظم الغزالى من العراق، ورياض السنباطى من مصر، يمثلان الشرق، كلٌّ منهم عظيمٌ فارقٌ عابرٌ للأزمان والأمكنة، ولكلٍّ منهم نغمةٌ لا تخطئها الأذنُ السليمةُ لأن لكل منهم أسلوبًا موسيقيًّا يعزُّ نظيرُه، نكادُ فى حضرتهم نقول: «نعم، غادر الموسيقيون من مُتردّم»، مع الاعتذار لعنترة بن شداد، وبيته الشهير.
تربّص بأولئك الموسيقيين الكبار، فتى الموسيقى العراقىُّ العالمى «نصير شمّة» ليدرس «أساليبهم»، و«أسلوبياتهم» فى نحت النغمة والسكون، فكانت رسالةُ الماجستير التى تقدّم بها بإشراف د. حسين الأنصارى، ونوقشت فى القاهرة قبل أيام أمام اثنين من رموز الموسيقى فى مصر هما: د. إيناس عبدالدايم، رئيس دار الأوبرا المصرية وعازفة الفلوت الساحرة، ود. زين نصّار، المؤرخ الموسيقى وأستاذ النقد الفنى، ورئاسة فارس النقد الأدبى د. صلاح فضل. واتفقت اللجنةُ على منحه درجة «الدكتوراه» بدلا من «الماجستير»، ليس فقط لأن للباحث منجزًا موسيقيًّا وتعليميًّا هائلا شهده العالم منذ عقود فى المجال الموسيقى، بل كذلك لأن هذا البحث يُعدُّ فتحًا لكوّة غير مطروقة فى حقل النقد الموسيقى، وإزالةً لحائط عثرٍ كان يقفُ بين الأدب والموسيقى دون مبرر، ثم لإدخاله مصطلح «الأسلوبية» فى أدبيات النقد الموسيقى لأول مرة، ومن ثم تُحسبُ له الريادةُ والسبقُ فى هذا.
وبعدما ضجّت القاعةُ بالتصفيق الحادّ والمستمر، فرحًا بهذا القرار، بمنح الفنان نصير شمّة درجة الدكتوراه، أوضح لنا د. صلاح فضل أن هذا عُرفٌ جامعىٌّ شهير فى عديد من جامعات العالم، مثل جامعة «مدريد» الإسبانية التى درّس بها، وجامعة السوربون الفرنسية، وغيرهما، إذا ابتكر الباحثُ جديدًا فى علم ما، كما فعل نصير شمة حين شق طريقًا لعلم الأسلوبية فى الموسيقى، فى سابقة لم يسبقه إليها أحد.
نصير شمّة ليس موسيقيًّا مدهشًا وحسب، عزف فوق كبريات خشبات مسارح العالم قبل تخرّجه فى معهد الموسيقى فى بغداد، وليس باحثًا لا يهدأ فى علم الموسيقى، وقنّاصًا لطرائد النغم الهاربة، إنما هو «صانعٌ» و«صائغٌ» يبحث عن اللآلئ البرعمية بين رمال البشر وبحارهم، لتنمو فى قواقعه العلمية الأكاديمية التى أطلق عليها اسم: «بيت العود»، الذى أنشأه فى مصر عام 1998، برعاية د. رتيبة الحفنى والفنان فاروق حسنى، ثم فى قسطنطينة والجزائر والإمارات، ينتخب فرائده من الأطفال الموهوبين من مختلف جنسيات العالم، من عمر ست سنوات، يصنع لهم أعوادًا وقوانينَ صغيرة تناسب أجسادهم النحيلة، ودون سقف عمرىّ، ليتعلّموا العود والقانون على أيدى خبراء نوعيين، يدرسون أربعة وعشرين شهرًا حتى يتخرّجوا عازفين مهرة، فردًا فردًا، وليس جماعيًّا كما يحدث فى المعاهد الموسيقية التقليدية، لهذا استحق جائزة «أفضل مشروع لتنمية الشباب العربى» التى منحتها له الجامعة الأمريكية.
هكذا المثقف العضوى والفنان الحقيقى الذى يعمل على صنع كوادر نوعية تخلُفه فى فنّه وعلمه. الحقُّ أن اسم «نصير شمّة» يكبُر أية درجات علمية ينالها، والحقُّ كذلك أننى حين صافحته لأبارك له حصوله على الدكتوراه، شكرته على اختياره مصرَ الطيبةَ ليناقش فيها رسالته، فنظر لى بعتاب قائلا: «يا عزيزتى، إنها مصرُ!» يتبقى أن أقول إننى كتبتُ قصيدة فى 20 مارس 2003، عنوانها «نصفُ نوتة»، طرحتُ فيها حزنى قائلة إن نصير شمة مسح نصفَ نوتته الموسيقية اعتراضًا على سقوط بغداد. تقول خاتمةُ القصيدة: «وحدَه نصير شمّة/ مَن أفسدَ الخُّطةَ/ إذ اعترضَ على اختيارِ هذا المساءِ تحديدًا/ فحذفَ نصفَ النوتةِ/ ردًّا على قصفِ بغدادْ».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة