وجدت الولايات المتحدة أن أسلوب استخدام القوة العسكرية القائم على الضربة الاستباقية والوقائية هو الحل الأمثل للحفاظ على أمنها القومى، حيث إنها عندما حققت نصرا عسكريا سريعا فى أفغانستان من خلال الضربة الوقائية وجدت أن استعراض القوة أمام العالم أمر حتمى وحافز لشن ضربة استباقية ضد العراق، حيث إن أسلوبى الضربة الاستباقية والوقائيه يمنع العدو من فعل التهديد، فالولايات المتحدة تريد القضاء على العدو قبل أن يهددها، فعندما كان الرد الأمريكى ضعيفا على تفجير سفارتها فى كينيا وتنزانيا من خلال قصف صاروخى لمواقع فى السودان وأفغانستان فإنه لم يخلق الردع للأعداء، لذلك وجدت الولايات المتحدة أن أفضل وسيلة هىالبدء بالهجوم من أجل عدم إعطاء العدو فرصة أن يهدد أمنها فقد وجدت الولايات المتحدة الأمريكية أن فى النظام السياسى فىالعراق أفضل فرصة للحرب الاستباقية باعتباره يسعى لامتلاك أسلحة الدمار الشامل وفى مثل هذه الحالة يكون اللجوء للقوة هو الأفضل من أجل منع العدو من تهديدها وردع الآخرين، وهو ما أكدته الباحثة مروة محمد عبد الحميد عبدالمجيد فى دراستها التى حملت عنوان «التغيير والاستمرار فى إستراتيجية الأمن القومى الأمريكية بعد أحداث 11 سبتمبر».
ونجد أن هذه الاستراتيجية الجديدة التى طرحتها الإدارة الأمريكية، كما تقول الدراسة، ستؤثر فى حجم وطبيعة التحالفات القائمة حاليا بين الولايات المتحدة ودول أخرى خاصة فى أوروبا وآسيا، حيث من غير المتوقع أن تفلح أى إدارة أمريكية فى بلورة اتفاق دولى لتنفيذ عمليات عسكرية متعددة الأطراف لضرب دولة أو جماعة معينة بموجب استراتيجية الضربات الوقائية، كما ستواجه واشنطن صعوبات كبيرة بشأن تخطيط وتنفيذ عمليات مشتركة لأنه من الصعب إقناع الدول الصديقة بوجود تهديدات حقيقية وخطيرة، خصوصا إن تعارضت المصالح الاقتصادية والسياسية بين الولايات المتحدة وحلفائها ودوائر إقليمية كثيرة أبرزها الشرق الأوسط مما يفرض تناقضا فى المواقف بين الولايات المتحدة وحلفائها فليس من المتوقع، على سبيل المثال، أن توافق فرنسا ودول الخليج العربى، على قيام الولايات المتحدة بتوجيه ضربة استباقية ضد أى من العراق وإيران لتعدد المصالح الاقتصادية بين هذه الدول وكل من العراق وإيران، كما أنها لم تشكل تهديدا حقيقيا للولايات المتحدة لذلك ستجد واشنطن نفسها مضطرة لتنفيذ استراتيجيتها بمفردها ودون حلفاء، كما أنه سوف يكون هناك العديد من الدول التى تعترض على السياسة الخارجية الأمريكية بسبب أن الولايات المتحدة تعطى لنفسها الحق بموجب هذه الاستراتيجية الجديدة للتدخل بصورة انفرادية فى أى مكان فى العالم وتوجيه ضربات عسكرية ضد ما تراه تهديدا لأمنها القومى، وهو ما يفتح الباب أمام حالة من الفوضى فى الساحة الدولية، إذا ما لجأت دول أخرى مثل إسرائيل والهند إلى اتباع هذه الاستراتيجية باعتبارها مرفوضة عالميا لأنها تعكس إحساسا مفرطا بالقوة من جانب الولايات المتحدة والدول الأخرى التى ستنتهج نفس الاستراتيجية، وبالتالى تكرس مفاهيم هيمنة الولايات المتحدة على الشؤون العالمية وهيمنة إسرائيل على الدائرة الشرق أوسطية باعتبارها دولة إقليمية كبرى فى هذه المنطقة، وهيمنة الهند على جنوب آسيا باعتبارها دولة إقليمية «كبرى» هناك، ومن ناحية أخرى فإن تنفيذ الضربات الاستباقية يحتاج إلى معلومات استخبارية متطورة لأن هذه الضربات لكى تنجح فى تحقيق أهدافها ستحتاج إلى معلومات يقينية عن قدرات الخصوم المحتملين ونواياهم وأماكن انتشار الأسلحة والقوات، وإذا كانت أقمار التجسس تستطيع الكشف عن أماكن الأهداف العسكرية ومتابعة تحركاتها إلا أنها لا يمكنها اكتشاف النوايا الحقيقية للقيادات السياسية صاحبة القرار، خاصة إذا واكبت قراراتها عمليات خداعية تستهدف التضليل عن هذه النوايا، وهو ما يصعب العملية الاستخبارية ويزيد العبء على عناصر المخابرات البشرية لاستكشاف النوايا الحقيقية فى الوقت المناسب، لذلك إذا كانت هذه الاستراتيجية تعمل على حماية الأمن القومى الأمريكى إلا أنها تواجهها بعض السلبيات.
ركائز الضربة الاستباقية والوقائية للرئيس بوش
فى هذا المبحث سوف يتم التحدث عن أهم الركائز التى ترتكز عليها استراتيجية الضربة الوقائية والاستباقية، وهى الركيزة السياسية والعسكرية وأهم المتطلبات اللازمة لتنفيذ الضربات الاستباقية:
أولا: الركيزة السياسية
يقصد بالركيزة السياسية تلك القدرات التى تتحصل عليها الدولة والناجمة عن توظيف مدخلات القوة النابعة من البيئة الداخلية والخارجية والتى يتاح لحكومة ما استخدامها لتأمين ما تريده، فقد ساهمت عدة متغيرات سياسية واقتصادية وعسكرية فى تشكيل المقومات السياسية الأمريكية، وقد استخدمت الولايات المتحدة هذه الركيزة للتسويق لأعمالها ولتبريرها، ومن بينها هذه الأعمال الاستباقية والوقائية التى وجهتها لكثير من الدول بحجة الدفاع الشرعى عن النفس والحماية المسبقة ضد الأخطار، فالولايات المتحدة تتمتع بمقومات سياسية وهامش واسع من الحركة السياسية على المستوى العالمى يؤهلها للقيام بدور القوة العظمى على الرغم من حداثة نشأتها، حيث لا تمتد فى عمقها التاريخى إلى أكثر من ثلاث قرون فقد تمكنت الولايات المتحدة فى القرن العشرين من احتلال المركز الأول فى كافة الميادين الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية والثقافية والدبلوماسية، وأصبحت زعيمة العالم الغربى عندما تمكنت من مواجهة الاتحاد السوفيتى قرابة نصف قرن، وانتهات هذه المواجهة فى النهاية بانهيار الاتحاد السوفيتى لتصبح الولايات المتحدة هى القوة العظمى الوحيدة بعد الحرب الباردة، ومن المعروف أن صناعة القرار مهما كان شكله سواء أكان القرار إدارياً أم اقتصادياً أم سياسياً أم ستراتيجياً، فهو ليس عملية يسيرة وإنما هو عملية تتباين أنماطها تبعاً لما تمتاز به من تعقيد فى الأداء أو البناء المؤسساتىالرسمى أو غير الرسمى.
ويبدو التعقيد واضحا فى تعدد المؤسسات القرارية الأمريكية، وإذ يرى البعض أنها ميزة تشترك فيها الديمقراطيات الغربية، إلا أن فيصل التفرقة هنا يكمن فى التغير المستمر فى القابضين على الأداء السياسى وقدرتهم على التأثير فى صياغة التوجهات الاستراتيجية ولا سيما مؤسسة الرئاسة التى لها قدرات مناورة تصل فى أحيان كثيرة إلى حد الالتفاف على الدستور تأثراً بالمؤسسات الفاعلة ومركز القوى وجماعات المصالح أو تأثيراً بها، ونواصل فى المقالات القادمة إن شاء الله طرح الوسائل التى سيطرت أمريكا بها على العالم كله.