إن أية أمة لا يخطّط لها قادتها ولا يفكر لها أصحاب الفكر فيها، تنقاد لما يخطّط لها قادة الأمم الأخرى ولما يفكر لها الآخرون.
وأية أمة لا تحمل رؤية مشتركة للمستقبل، تعيش أحلاماً متصارعة بين أبنائها. وأية أمة لا تضع خططاً عملية تنفيذية لما تقرّره، تُصبح قراراتها مجرّد حبر على ورق، لا تستقطب صديقاً ولا تخيف عدواً.
وكلّما نجحت إسرائيل فى التحريم الدولى لحقّ المقاومة ضدها، كلّما حصلت على التشريع الدولى لإرهابها المستمر على الشعب الفلسطينى وعلى العرب عموماً. هذا ما ذكره الباحث صبحى غندور مدير «مركز الحوار العربى» فى واشنطن ف دراسته الرائعة والتى حملت عنوان «من حرب أمريكا على الإرهاب.. إلى حرب إسرائيل على العرب والمسلمين» وهى الدراسة التى كشفت العديد من الألغاز التى ربطت بين أمريكا وإسرئيل حيث قال غندور فى بحثه، لقد أشاد معظم المسؤولين العرب بـ«رؤية» وزير الخارجية الأسبق الأمريكى كولن باول حول الشرق الأوسط (هذه الرؤية التى كان ينقصها وضوح الرؤية!)، لكن لِمَ لمْ يتوجه إليه أىّ مسؤول عربى بسؤال علنى عبر وسائل الإعلام عن ما ذكره الوزير الأمريكى فى «رؤيته» حول «الاحتلال».
فكيف يمكن استخدام كلمة «الاحتلال» لوصف الوجود العسكرى الإسرائيلى فى الأراضى العربية التى احتلّت عام 67 (فى رؤية باول إشارة واضحة أيضاً إلى القرارين 242 و338 اللذين ينصان على الانسحاب من الأراضى العربية المحتلة عام 67)، ولا تقبل أمريكا بحق مقاومة الاحتلال؟. أن مجرد الإقرار الأمريكى بتسمية «الاحتلال» يفترض إقرار حق مقاومة الاحتلال كما نصت على ذلك الشرائع الدولية.
ألم يكن التاريخ الأمريكى مليئاً بدعم المقاومات الوطنية ضد احتلالاتٍ أجنبية؟ ألم يكن الاستقلال الأمريكى عن العرش البريطانى حصيلة مقاومة شعبية للجيش البريطانى؟ إن إسرائيل تحاول إقناع الأمريكيين والغربيين بأن ما يحدث من مقاومةٍ ضدها هو عمل شبيه بما حدث فى أمريكا يوم 11 سبتمبر، بينما على الجانب العربى (وتحديداً الفلسطينى) هناك أما حالة انتظار سلبى أو أعمال إحباطية. وكلتا الحالتين هما مفيدتان الآن للغايات الإسرائيلية، وللحركة الإسرائيلية، وللرؤية الأمريكية المطلوبة لمستقبل منطقة الشرق الأوسط.
هناك مشاريع إسرائيلية (ومراهنات أمريكية أيضاً) على إمكان تمزيق الشارع الفلسطينى وتحطيم كلّ عناصر المقاومة فيه، بحيث يكون ذلك مدخلاً لبناء «الشرق الأوسطى الجديد» بعدما تعذر تحقيق ذلك فى العقد الماضى على أسس مدريد وأوسلو وملحقاتهما.
فلسطين كانت أولاً فى الصراع العربى/الصهيونى، وفلسطين ستكون أولاً فى الصراعات والحلول الجديدة القادمة على المنطقة.
وسيتوقف حجم هذه «الصراعات» ونوع هذه «الحلول» على مقدار ما سيتحقق عربياً من تخطيطٍ مسبَق عوضاً عن الانتظار.. ومن تنسيقٍ مشترك عوضاً عن الانقسام.. ومن أساليب ناجحة فى المقاومة عوضاً عن أعمال اليأس والإحباط.. وعلى ما سيكون فى أمة العرب من طروحاتٍ وممارسات تصون وحدة أوطانها ومجتمعاتها.
ولقد كتبت فيما سبق الكثير من شكل التجرك الفلسطينى حيث قلت إنه ربما يكون مفيدا أن يتحاور المشاركون فى هذا المؤتمر الفلسطينى عن كيفية التحرك دولياً من خلال وفودٍ فلسطينية مشتركة من أجل تأكيد حقّ الشعب الفلسطينى باستمرار انتفاضته ومقاومته ضد الاحتلال الإسرائيلى، وبضرورة التمييز بين الإرهاب والمقاومة من جهة، وبين المقاومة ضد جيش الاحتلال وعمليات التفجير الإحباطية ضد مدنيين، من جهةٍ أخرى.
فالشعب الفلسطينى هو ممزق أصلاً بين من هم فى الخارج، وبين من هم فى الضفة وغزة، وبين من هم الآن فى إسرائيل. فكيف إذا كان الانقسام أيضاً بين سلطةٍ تريد العودة للمفاوضات، وبين انتفاضةٍ تريد استمرار المقاومة ضد الاحتلال، ثم بين مقاومةٍ تحرص على مواجهة جيش الاحتلال فقط وبين مقاومةٍ لا تضع حدوداً لمن هم المستهدفون بعملياتها فتسمح بذلك بتصنيفها على أنها «منظمات إرهابية» تستهدف المدنيين فى إسرائيل ولا تواجه فقط جيش الاحتلال الإسرائيلى؟ إن المناطق الفلسطينية المحتلة هى الآن محكومة بمنهجين متناقضين كل منهما ذهب إلى مدى أكثر مما يتوجب الذهاب إليه فى الصراع الدائر مع إسرائيل فى هذه المرحلة: الأول فى نوع المفاوضات والاتفاقات، والآخر فى نوع المقاومة المطلوبة فى هذه الظروف. وعوضاً عن التكامل بين العمل السياسى والعمل العسكرى على الساحة الفلسطينية، نجد التصادم قائماً فى الجسم الفلسطينى بين «اليد التى تحمل غصن الزيتون واليد التى تحمل البندقية».
طبعاً، واقع العالم الإسلامى ليس بجنات عدن، لكن حتماً تجربة أفغانستان لا تمثّل إلا نفسها، ولا توجد حالة شبيهة لها فى دول العالم الإسلامى الأخرى، ورغم ذلك فإن الرأى العام الغربى يرى الإسلام الآن من خلال «عيون أفغانية»، ويرى «العرب الأفغان» هم الأسوأ فى هذه التجربة الأفغانية من خلال التركيز على دورهم فى مجموعة «القاعدة»، بحيث أصبح الإسلام الآن فى نظر العديد من الغربيين مزيجا من «التخلف الأفغانى» و«الإرهاب العربى»!! وأصبحت الهوية الإسلامية والعربية موسومة بالتخلف والإرهاب حتى لو كان هذا «المسلم» أو ذاك «العربى» يعيش فى الغرب لعقودٍ طويلة أو «مواطن» فى بلدٍ غربى.. وكأن التخلف والإرهاب هما سمات جينية تنتقل بالوراثة بين المسلمين والعرب!!
ويظهر عمق الجهل الغربى عموماً بالمسلمين والعرب حينما تلمس أنه لا فرق وسط هذا الجهل الغربى بين مسلمٍ وعربى، فكلاهما واحد بنظره، على الرغم من أن عشرات الملايين من العرب هم من غير المسلمين، ومئات الملايين من المسلمين هم من غير العرب، وإنْ جمعت بينهم جميعاً سمات تاريخية حضارية مشتركة.
لقد أدركت إسرائيل، منذ توقيع معاهداتها مع كلّ من مصر والأردن والسلطة الفلسطينية، صعوبة أن تتخذ الحكومات العربية بعد هذه المعاهدات، قراراً بالحرب ضدها. وقد قالها أنور السادات عشية توقيعه للمعاهدة مع إسرائيل «إن حرب عام 1973 هى آخر الحروب مع إسرائيل»، وقد كان محقاً لجهة الحكومات العربية لكن ليس لجهة إسرائيل وحروبها المفتوحة فى المنطقة، وخاصة فى فلسطين ولبنان. وغدا نتواصل
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة