- ألمانيا تعيش اليوم عصر ما بعد القوة الاقتصادية وتمارس عملا استخباراتيا وسياسيا واسعا فى بلادنا وفى ربوع جنوب المتوسط
تشارليز ثيرون فى مشهد من فيلم "سنو وايت"
كلما نظرت فى ملامح المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أتذكر قصة «سنو وايت والأقزام السبعة»، فى هذه القصة ذات الأصل الألمانى، تقف الملكة التى تحارب سنو وايت فى مواجهة مرآة سحرية معلقة على حائط القصر وتلقى تعويذة سحرية تجعل من هذه الملكة العجوز فتاة يافعة بجمال خلاب قادرة على أن تخلع قلوب الملوك فى عصرها، فتتزوج من الملك والد سنو وايت، ثم تحارب ملكة الثلج البيضاء وتطردها إلى الغابة، حتى نهاية هذه القصة البديعة.
المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل
لا أقصد أن أنجيلا، شخصيا، فى مقام هذه الساحرة العجوز فى مواجهة المرآة، لكن الجمهورية الألمانية بكاملها تبدو لى وكأنها تقف أمام هذه المرآة، وتلقى بتعويذة سحرية لتستدعى أسطورة القوة الألمانية:
• أيتها المرآة المعلقة على الحائط تذكرى أننا صرنا نحكم أوروبا منفردين بعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبى، فمن غيرنا هنا الأقوى اقتصاديا، ومن غيرنا هنا صاحب التاريخ الطويل فى القوة والسيطرة على ربوع هذه القارة العجوز.
• أيتها المرآة المعلقة على الحائط، تذكرى أن الولايات المتحدة الأمريكية التى بسطت نفوذها على أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، وما أعقبها من عمليات بناء للقارة بمشروع مارشال العملاق، بعد أن كانت أوروبا قد تحولت إلى أطلال تحت قصف الجيش الألمانى، هذه الولايات المتحدة الحليفة تنسحب إلى الداخل، ويعلن رئيسها الجديد دونالد ترامب استراتيجية «أمريكا أولا»، رغم أنف حلفائه القدامى وزملاء خنادق الحرب.
• أيتها المرآة المعلقة على الحائط، أنا ألمانيا العظيمة، الأقوى اقتصاديا، القادرة على تمويل الدول الأكثر فقرا فى أوروبا، أنا ألمانيا العظيمة التى أنقذت اليونان من الإفلاس، وساعدت على دمج جمهوريات شرق أوروبا تحت راية الاتحاد بعد سقوط الاتحاد السوفيتى.
• أيتها المرآة المعلقة على الحائط، من ينافس ألمانيا إذن بعد انسحاب أمريكا إلى الداخل، وبعد انسحاب بريطانيا إلى المجهول، وبعد انشغال الكرملين فى موسكو بحروب الشرق الأوسط، حتى فرنسا المسكينة لا تستطع الصمود فيما يعرف التاريخ أن الدور الفرنسى فى أوروبا لم يستند على معادلات القوة الفرنسية، بقدر ما استند على مساندة الولايات المتحدة وبريطانيا، ضمن الحذر الدائم من القوة الألمانية.
تبدو لى الجمهورية الألمانية اليوم كمن يعيد التفكير فى وضعه الإقليمى فى أوروبا، وفى مكانته الاستراتيجية على خريطة العالم، تنظر ألمانيا فى مرآة تاريخ القوة فى الماضى، وفى واقع القوة حاليا، ولا تتأمل مستقبلها فقط، ولكنها تتأمل مستقبل أوروبا بالكامل تحت زعامتها التى نتجت عن انسحاب ساذج لبريطانيا، وانسحاب مغفل للولايات المتحدة.
تسأل أنت الآن، وما فائدة هذا لنا هنا فى القاهرة؟
لا أريدك أن تكون ساذجا كبريطانيا، أو مغفلا كالإدارة الأمريكية، فإذا تأملت قليلا فستدرك أن ألمانيا تلعب الآن دورا أكبر كثيرا من دورها الروتينى كخزانة للتمويلات، ألمانيا نظرت للمرآة وأدركت أن دورها لا يجب أن يقتصر على ذلك، لكن لديها من القوة ما يدفعها لتلعب دورا أوسع كثيرا من محفظة نقود أوروبا، أو "سنيد" للطموح الأنجلوساكسونى.
ألمانيا تضاعف التمويل لإعلامها الموجه على نحو غير مسبوق خاصة فى الإعلام الموجه لبلدان الشرق الأوسط وبلدان جنوب المتوسط باللغة العربية، مؤسسة دويتش فيله على سبيل المثال تقدم برامج تدريب شديدة السخاء للمؤسسات الإعلامية جنوب المتوسط، وتختار بعناية شخصيات إعلامية بعينها للظهور، ولا يغيب عن المتابعين لهذه المؤسسة أنها تعمل بآليات أقرب للمنظمات الحقوقية الغاضبة، أكثر من كونها مؤسسة إعلامية موضوعية.
أضف أيضا إلى المسألة الألمانية بعدا آخر، فألمانيا مثلا تلعب دورا استخباراتيا واسعا فى الشرق الأوسط على نحو غير مسبوق، فالاستخبارات الألمانية مثلا كانت هى الأقرب، دائما، لإيران وحزب الله، فلا توجد صفقة تفاوضية لحزب الله مع إسرائيل أو مع الغرب تجرى بعيدا عن وسيط من المخابرات الألمانية، ثم ظهر مؤخرا دور ألمانيا فى الأزمة القطرية على نحو لافت للانتباه، فالمخابرات الألمانية فتحت خطوط اتصال مع النظام القطرى، لمناقشة ملف تمويل الإرهاب، ربما جاء ذلك بإيعاز من الإيرانيين الذين يحظون بعلاقات مميزة مع المخابرات الألمانية، لكن بصرف النظر عن مصدر هذا التحرك، فإن المخابرات الألمانية دخلت بالفعل على خط الأزمة.
أسأل فقط، لماذا كانت المخابرات الألمانية هى الشريك العلنى فى هذه الأزمة، وليست وزارة الخارجية الألمانية مثلا، أو الدبلوماسيين الألمان أصحاب القدرات التفاوضية الفذة فى الاتحاد الأوروبى؟
هذه الصورة تزداد غموضا، وتشتعل فيها التساؤلات إن لاحظنا مثلا أن الاستخبارات الألمانية وافقت لعناصر من جماعة الإخوان المسلمين بالبقاء على الأراضى الألمانية، وأوعزت الأجهزة الاستخباراتية الألمانية إلى دوائر الدولة بضرورة الحفاظ على هذه العناصر فى الداخل، لسبب لا يعلمه إلا قيادات المخابرات الألمانية.
السياسة هنا صارت حاضرة فى المشهد الدولى الألمانى أكثر من محفظة النقود، أو مصدر الاستثمار، أو الدولة الصناعية المصدرة للتكنولوجيا، ألمانيا تعرف أن دورها فى أوروبا قد يمتد إلى ما هو أبعد من ذلك، فتستعد لهذه اللحظة التى تقود فيها أوروبا، أو لنقل أن ألمانيا ترى أنه قد حانت لها لحظة عالمية نادرة لتستعيد نفوذها العالمى سياسيا وأمنيا، واقتصاديا وماليا، ومن ثم فنحن أمام مسألة ألمانية جديدة تحتاج إلى رؤية جديدة كذلك من جانبنا هنا فى الشرق الأوسط، ومن جانب القاهرة والرياض على وجه الخصوص.
تسأل أنت مرة أخرى، لماذا أشرت للرياض تحديدا هنا؟
أقول لك إن الخطوات الألمانية "استخباراتيا" صارت مثيرة للانتباه، بل والريبة أحيانا فى الأداء العلنى للاستخبارات الألمانية، خذ مثلا هذا التقرير الذى أصدرته علنا المخابرات الألمانية عن المملكة العربية السعودية، وأذاعته شبكة الـ"BBC" البريطانية، المخابرات الألمانية أصدرت تقريرا تنتقد فيه ما سمته "الاندفاع السعودى" فى الشرق الأوسط، ووجهت انتقادات علنية للسياسة السعودية بين سوريا وإيران وحزب الله واليمن.
متى فى تاريخ الدبلوماسية، أو فى تاريخ العمل المخابراتى فى العالم سمعت عن بلد يقدم تقريرا يصف أداء دولة حليفة بأنها فى حالة "اندفاع"؟
ومتى سمعت فى التاريخ السياسى فى العالم أن تقريرا بهذا "الاندفاع" صادر عن جهاز استخباراتى دولى يتم تسريبه للميديا العالمية وتنشره الـ BBC العريقة؟
لا أنزع هنا إلى نظريات التآمر، رغم جدارتها فى التطبيق خلال السنوات العشر الماضية، لكننى أرصد لك واقعاً جديدا على الصعيد الدولى، واقعا نحتاج إلى أن نتأمله فى إعادة تشكيل خريطة القوى فى المستقبل، أو فى قراءة نوايا الأمم التى تنظر لنفسها فى المرآة اليوم وتقول، كما تقول الملكة الساحرة الشهيرة فى قصة سنو وايت:
"إننى لن أقبل مجددا بدور المحفظة المالية دون تأثير سياسى، لأن العالم من حولى يتبدل، وصارت اللحظة مواتية لقوة ألمانيا سياسيا وأمنيا، ثم ربما عسكريا لاحقا، تعود من جديد".
لا يمكنك أن تلوم بلدا تتراكم بين يديها القوة الاقتصادية الهائلة لمجرد كونها تبحث عن دور سياسى دولى واسع النفوذ، فهذا حق أصيل للدول، لا أوجه لوما، ولا أغرق بك فى عالم المؤامرات الاستخباراتية، لكننى فقط أنبه إلى أن ألمانيا تعيش اليوم عصر ما بعد القوة الاقتصادية، وتمارس اليوم عملا استخباراتيا وسياسيا واسعا فى بلادنا وفى ربوع جنوب المتوسط، وإما أن ندرس ما يدور جيدا بأسبابه وتفاصيله وكواليسه، أو أننا سنكون كالأقزام السبعة.
معزولين فى الغابة.
مصر من وراء القصد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة