التحول فى أزياء المصريين ومظهرهم الخارجى يعكس ثقافتهم المتحولة، ويؤكد أن التحول فى شخصية المصريين وثقافتهم بديهية لا تقبل النقاش، صحيح أنه تحول بطىء، لكنه ملحوظ خلال عدة حقب زمنية لا تزيد عن قرن من الزمان، فبعد أن كان الطربوش هو الأصل لدى أغلب المصريين اختفى مع ثورة يوليو. وبعد أن كان الحجاب فى الستينيات من القرن الماضى قاصراً على العجائز، صار هو الأصل بين الفتيات والنساء، ومن يدرى كيف ستكون التغييرات المقبلة فى مظهر المصريين. فطالما لا يوجد زى وطنى للمصريين سيستمر التبدل والتغيير، وستستمر ثقافة المصريين منفتحة وقابلة للتطور والتحول. أضف إلى ذلك تغيرات الموضة التى أصبحت أحد آليات العولمة، ومظاهرها، فالموضة تسرى بين رجال ونساء وأطفال العالم بقوة لا يمكن مقاومتها، وخذ على سبيل المثال موضة بنطلون الجينز الممزق التى تجتاح العالم ولم تقاومها حتى المحجبات، وإنما تحايلن عليها، فالبنطلون ممزق لكنه يستر الجسم أيضا، المهم ألا تفوتك الموضة.
صحيح أن هناك شعوباً عربية شقيقة غيرت كثيرًا من جوانب شخصيتها وثقافتها، لكنها حافظت على الزى الوطنى كأيقونة ورمز يستخدم يومياً ولكن بلا معنى أو اتصال حقيقى وعميق مع تراثها، وبدون أن يصطدم الزى الوطنى مع قيم الحداثة أو العولمة أو حتى التبعية الثقافية، كما يحدث فى دول الخليج. أى أن الزى التقليدى رغم وجوده واستمراريته انفصل عن الإطار الثقافى العام، وأصبح مجرد أيقونة ومظهرا للإعلان عن جنسية مرتديه من أهل البلاد، فى مواجهة طوفان من الجنسيات الأجنبية التى ترتدى أزياء غربية حديثة، أى أصبح آلية للتمييز وممارسة السلطة ضد الآخرين الأجانب بمن فيهم العرب الوافدين، بدون أن يعكس ثقافية وهوية قوية وراسخة، وقادرة على التجدد الثقافى ومواجهة مخاطر الأجانب الوافدين.
أما فى مصر فقد كان الوضع مختلفاً، فلم يتمسك أغلبية المصريين بزى وطنى تراثى، وفصلوا منذ عقود بين الزى وبين القدرة على التجديد الثقافي، والحفاظ على استقلال الهوية الثقافية. وهو ما يؤكد انفصال الزى عن المعنى والموقف الثقافى، فأغلب المصريين، وفى مقدمتهم القاهريين، يرتدون أنماطاً من الزى الغربى، لكن إطارهم الثقافى والقيمى قد يختلف أو يبتعد تماماً عن قيم الحداثة الغربية ونموذجها الحضارى. صحيح أن بعض المصريين يتمسكون بالجلباب فى الدلتا والصعيد، علاوة على الجلباب القصير الذى وفد إلى الثقافة المصرية فى إطار موجة المد الإسلاموى السلفى، إلا أن الجلباب هنا وفى كل الحالات لا يعد علامة فارقة ومناقضة لقيم الحداثة الغربية أو التبعية، فالفلاح بجلبابه وعمامته يستخدم المحمول والدش والآلات الحديثة فى الرى والحصاد والزراعة، ولا يجد أى غضاضة فى ذلك.
انفصال الزى عن المعنى مشهد يتكرر فى مصر ودول الخليج بأسلوبين مختلفين، وربما يتكرر المشهد فى السودان بأسلوب ثالث، وفى الصين بأسلوب رابع، وهكذا يتكرر المشهد، ولكن بصياغات وأساليب متعددة، اكتسبت زخماً وتنوعاً فى ظل العولمة، مما يؤكد الطبيعة المعقدة للعلاقة بين الزى والثقافة، ونفس هذه العلاقة تظهر فى علاقات الزى بالنوع والطبقة والمستوى الثقافى فى شوارع المحروسة، لكن المحير أن كثيراً من القاهريين يقاومون بأساليب مختلفة ارتداء الزى الموحد فى مجال العمل أو الدراسة، فطلبة المدارس يتحايلون بطرق مختلفة على ارتداء الزى الموحد، بعضهم يدخل عليه تعديلات أو إضافات تخرجه من رمزيته ومعناه المقصود، وبعضهم يخلعه فى رحلة الذهاب والإياب من وإلى المدرسة. الأفعال نفسها يمارسها كثير من العمال فى المتاجر أو حتى بعض المطاعم.
وحدهم الموظفون فى مناصب مرموقة أو شركات أجنبية، ورجال الشرطة وتحديداً أصحاب الرتب العليا، يرحبون بارتداء الزى الموحد ويتفاخرون به، فهو زى سلطوى بامتياز، يمنح صاحبه مكانة واحترامه قد تصل إلى تجاوز قانون المرور أحيانا. هنا يصبح الالتزام بالزى الموحد ورموزه من نجوم ونسور، أو علامات لشركات كبرى، ميزة طبقية، وإعلان عن هوية، وممارسة صريحة وآمنة للسلطة تجاه الآخرين، بينما يحدث العكس تماماً للزى الموحد لدى بعض الجنود والعمال البسطاء والموظفين فى المصالح والشركات العامة والخاصة، إذ يتحول الزى هنا إلى نوع من التمييز السلبى، ويصبح علامة للآخرين أن يمارسوا عليهم وضدهم السلطة وربما القهر.
لكن أحياناً يمارس هؤلاء البسطاء، الذين يدمغهم الزى الموحد بقلة المكانة الاجتماعية، نوعاً من المقاومة الذكية لسلطة الآخرين عليهم، بل قد يمارسونها ضد الآخرين، كما هو الحال فى عمال الأمن عند بوابات الدخول والخروج، عندما يمارسون سلطة وتحكم ضد أمثالهم من البسطاء، بينما يتسامحون تماماً ولدرجة التفريط فى قواعد الأمن مع كل شخص ذو مكانة أو هيبة طبقية كالضباط أو أصحاب السيارات الفارهة. وفى المقابل هناك من البسطاء من يتمسك بزيه الموحد كعمال النظافة الذين يعتبرونه مصدر رزق وفير لهم من خلال استعطاف المارة وأصحاب السيارات للحصول على حسنة.
يقاوم أو يتحايل القاهريون على الزى الموحد وما يفرضه من واجبات أو التزامات خاصة بالمظهر، بحسب المهنة التى يشتغلون بها، ومستواها من وجهة النظر الاجتماعية. لكن المؤكد أن أغلب القاهريين يقاومون ويتحايلون على الزى الموحد، ربما لضعف إيمان وسلوك المصريين فى العمل الجماعى المشترك، وربما كنوع من المقاومة البائسة للسلطة، أى سلطة، وربما، وهذا هو الأرجح من وجهة نظرى، لكون أغلب المصريين لا يرحبون كثيراً بالالتزام الطوعى للقانون والنظام، وهى مسألة ثقافية من وجهة نظرى تنتشر بين المصريين المعاصرين، بغض النظر عن مستواهم الطبقى أو التعليم، وأعتقد أن رفضهم الالتزام الطوعى للنظام يعود إلى عدم ثقتهم فى عقلانية ورشاده النظم المعمول بها وموضوعيتها، خاصة وأنه لم يتم دعوتهم إلى المشاركة بجدية فى وضع هذه النظم والقوانين، وإنما فُرضت عليهم فرضاً بواسطة سلطة لا تحظى بمشروعية.
وعلى سبيل المثال، إذا تأملنا ارتداء زى موحد فى مراحل التعليم قبل الجامعى فسنجد أن الطلبة لم يشاركوا فى اختيار الزى والذى يبدو بالغ الغرابة فى شكله وألوانه، ربما لوجود اشتراطات معقدة، أو اتفاقات بين إدارة المدرسة ومحلات محددة لبيع هذا الزى، من جانب آخر فإن الطلبة ومنذ الأيام الأولى يجدون هذا النظام وقد أُسقط أو عُدّل لصالح أحد أبناء الأساتذة أو أصحاب النفوذ، هكذا يتعلم ويتدرب المصريون بشكل غير مباشر ومنذ الصغر على مقاومة النظام والقانون، الذى يفتقر بالأصل إلى العقلانية والمعايير الموحدة فى التطبيق على الجميع وعلى قدم المساواة، وبالتالى يصبح التمرد أو التحايل على النظام ممارسة يومية، تعكس ثقافة الفهلوة لدى المصريين.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة