الوداع بـ"التحنين" والعودة بالرسومات.. المصريون يوثقون رحلات الحج المقدسة بالفنون.. باحثون: أغانى الوداع ظهرت منذ القدم وكانت تعبر عن العبور من مرحلة لأخرى.. وكتاب يؤكد: الفقراء الأكثر تمسكًا بالتراث

الإثنين، 04 سبتمبر 2017 04:16 م
الوداع بـ"التحنين" والعودة بالرسومات.. المصريون يوثقون رحلات الحج المقدسة بالفنون.. باحثون: أغانى الوداع ظهرت منذ القدم وكانت تعبر عن العبور من مرحلة لأخرى.. وكتاب يؤكد: الفقراء الأكثر تمسكًا بالتراث الحجاج على جبل عرفات
كتب محمد عبد الرحمن

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

المصريون منذ القدم أهل فن وحضارة وثقافة عالية الذوق توراثتها الأجيال، وربما يظهر ذلك جليًا فى طقوس المصريين الاحتفالية والتراثية الشعبية.

ومن بين تلك الاحتفالات التى ارتبطت بالفنون والتوثيق الفنى يأتى موسم الحج، كأحد أهم المواسم تاريخيًا صاحبة التراث الفلكلورى والفنون الشعبية المميزة، الذى يشتهر بها المصريون عبر الزمان، فمن هنا كانت تقوم زفة المحمل قبل إرسال كسوة الكعبة المشرفة فى القدم، من هنا تغنى الأقدمين بأغانى الوداع، ورسموا برسومات الحائط لتوثيق رحلاتهم المقدسة.

تلك الفنون لازمت موسم الحج طوال الماضى، حيث عرفها المصريون منذ آلاف السنين كطقس مصرى فريد، يمزج ما بين الفرح والشجن، الأمل والحزن، المديح والتهليل.

"أغانى الوداع" أو كما يطلق عليها فى الجنوب "التحنين" والتى عرفت قديما لمديح رحلة العبور لدى المصريين، وتوراثتها الأجيال تباعًا، تغيرت الكلمات وبقيت حالة الشجن التى تميزها.

محمد شحاتة العمدة الباحث فى التراث الشعبى، يعرف تلك الأغانى قائلاً: هى تلك الأغانى المنغمة ذات الإيقاع الهادئ والتى يغنيها النساء فى وقت توديع الحجاج أو وقت عودتهم أو أثناء غيابهم فى رحلة الحج، ويعبر ذلك الغناء عن الشوق والحنين لزيارة الأراضى المقدسة ووصف مناسك الحج ووسيلة المواصلات التى يستقلها الحاج والصعوبات التى تواجهه أثناء الرحلة، ووصف لحال أهله وشوقهم له أثناء غيابه.

وتابع "شحاتة" فى تصريحات لـ"اليوم السابع": وسمى ذلك النوع من الغناء بالتحنين لأن الناس يقولون للمسافر لرحلة الحاج "حج مبرور وذنب مغفور، والله يحنن عليك" لأن الرحلة فى الماضى كانت شاقة جدًا ويمر الحاج بصعوبات كثيرة من تقلبات جوية "درجة حرارة مرتفعة أو منخفضة" أو قلة الزاد أو الازدحام الذى يزداد أثناء أداء المناسك، فيحتاج الحاج لمن يأخذ بيده فى تلك المواقف ولأن الجميع منشغلون بنفس الموقف فلا سبيل للمساعدة إلا من الله سبحانه وتعالى، وسميت أيضًا تحنين لما بها من حنين لزيارة الأراضى المقدسة وحنين للمسافر من أهله انتظارًا لعودته، وحنين منه لأهله أيضًا أثناء الرحلة التى كانت تستغرق شهورًا كما ذكرنا من قبل.

بينما قال الشاعر والباحث مسعود شومان: إن أغانى الوداع تعتبر من الطقوس المصرية القديمة وتسبق فكرة الحج نفسها، حيث ترتبط بفكرة العبور، وهى عبور الإنسان من زمان إلى زمن آخر، ومن مكان  إلى آخر، كتعبير عن عبور الروح وتجددها، والحج هنا يمثل رحلة عبور الإنسان من مرحلة الذنب إلى التطهر.

وأشار إلى أن إيقاع أغانى الوداع ثابث إلى حد كبير ومعظمها أغانى ربعاية، تختص  لمديح المرحلة وذكر الأحباب وذكر ومديح زيارة قبر النبى، وهو ما يظهر فى عدد كبير من تلك الأغانى.

«تهون التقيلة إن مدحت/النبى تهون التقيلة/من الشرق جولك فاطيمة/تقول/ يا أبايا من الشرق جولك/ من الشرق جولك ضيّعوا ماااال/ عليهم عشان ضى نورك/على الأرض يجرى ماريتى نورى/النبى على الأرض يجرى/ على الأرض يجرى ما كَيَلوكى/ الدهب ما خدته فى حجرى/ على الأرضى ماشى ما كيلوكى/ النبى على الأرض ماشى/ على الأرضى ماشى ما كيلوكى/ الدهب ما خدته فى شاشى/وأنا ع المخده حلمت حلمى/ وفى الليل وأنا ع المخده/ وأنا ع المخده حلمت زرتو/النبى وزادت المحبة/ ولا مالى فى أيدى عشقته/ المصطفى ولا مالى فى أيدى ولا مالى فى أيدى/ وحلمت يا سيدىولا معايا تجارة / عاشقه المصطفى ولا معايا تجارة/ النبى كفايانى الزيارة»

(ويأتى النص السابق كأحد أغانى الوداع -التحنين- فى الجنوب مادحا فى حب الرسول وابنته السيدة فاطمة "فاطيمة"، وتباركا بزيرة ورؤية قبره التى لا تقدر بمال أوذهب بحسب ما يظهر فى كلمات الأغنية مثل "ما كيلوكى"، واصفة الزيارة بإنها يهون لها التعب ومشقة السفر كما فى مطلع الأغنية "تهون التقيلة").

وتابع "مسعود شومان" أن معظم المصريين تشاركوا فى نفس سياق الأغانى فى الإلحان والكلمات المتشابه، وإن كانت أغانى الوجه البحرى أكثر شجنًا، من نظيرتها فى الوجه القبلى والصعيد، بينما  أتصفت أغانى الجنوب بأستخدام الآلات مثل الربابة فى الاحتفال، على عكس أغانى الشمال التى دائما تكون داخل البيوت أو أمام بيت الحج.

وأضاف "شومان" أنه لاحظ أن أغانى التقديس والخاصة بالحج إلى القدس عند الأقباط، هى تقريبًا نفس الأغانى الحج فى الالحان والكلمات المتشابه إلى حد كبير، وهو ما يوضح أن فكرة الغناء لم ترتبط بالأمور الدينية بقدر ما تترتبط بالاحتفال والتوثيق قبل فكرة الحج الدينى نفسها على حد تعبيره.

 

«وتاكسات براية فوق جبل عاااا/ وعرفات ما تكسات براية/ ما تكسات براية والمطوف/ وع القول يا عشاق ورايا/ ما تكسات بزينه فوق جبل عاااااا/ وعرفات ما تكسات بزينة/ ما تكسات بزينة والمطوف/ وع القول يا عشاق نبينا/ ويا حج سيد يا غفير دار/ دار بيهم يا حج سيد/ ويا حج سيد دلنى عاااااااا/ع الدروب دى غربة  وتشيب»

(أما ذلك النص السابق من أغانى "التحنين" لوصف القوافل الذاهبة للحج والتى تضع رايات بيضاء كما يظهر فى كلمات " تكسات براية"، كما تشير إلى الموف الذى يشرف على شعائر الحج مع أفواج الحجاج فى "دار بيهم يا حج سيد").

المصريون اتخذوا من كلمات وألحان التحنين توثيقا لرحلة العبور، بينما أتجهوا لرسم على الحائط لتوثيق الرحلة والإعلان عن عودة الحجيج.

فيقول الباحث محمد شحاتة العمدة: أن بعد سفر الحجاج يقوم الأهل بتنظيف البيوت ودهانها بألوان زاهية وبيضاء ويرسمون على جدار المنزل من الأمام رسومات تعبر عن وسيلة السفر التى يستقلها الحاج سواء (جمل – طائرة – باخرة) وأيضًا رسم للكعبة المشرفة والمدينة المنورة، ويكتبون فوق الجدار أسم الحاج وأسم زوجته إذا كانت برفقته، وهم بذلك يستعدون لاستقباله أثناء رحلة العودة.

بينما يوضح الشاعر "مسعود شومان" أن الرسومات كانت بمثابة إعلان عن عودة الحج وتوثيقا لها وكانت توضح اسم الحج وتاريخ الرحلة، والوسيلة التى استخدها، مشيرًا إلى إنها  احتفال له بعد مصرى قديم، يعبر عن الفرحة.

«ساكنة الجبال فاطيمة تقول/ يا أبايا وساكنه الجبال/ ساكنه الجبال واللى أحبه/ يا بنتى يجينى يلالى/ وحسن والمشايخ والنبى شوف/ عيالك حسن والمشايخ/ حسن والمشايخ يا حسن روح/ وقوله معجل ورايح/ حسن والهريدى والنبى شوف/ عيالك حسن والهريدى/ حسن والهريدى يا حسن روح/ وقوله معجل هييجى»

(النص السابق من أغانى التحنين يأتى تعبيرًا عن حالة انتظار الأحباب فى عودتهم من رحلة الحج وزيارة قبر النبى الكريم وانهم سوف يأتوا قريبًا من الزيارة كما فى يظهر فى كلمات " معجل هييجى").

ورغم ارتباط تلك الطقوس الفنية بالمصريين لفترات طويلة، إلا إنها، أصبحت تتواجد بشكل نادر فى بعض المناطق الريفية ومحافظات جنوب مصر.

الدكتور سعيد المصرى أستاذ علم الاجتماع والأنثروبولوجيا فى كلية الآداب جامعة القاهرة، سلط الضوء على تلك الظاهرة فى كتابه "إعادة إنتاج التراث الشعبي"، حيث قدمت الدراسة بعض الملاحظات حول مظاهر الإبداع الثقافى فى مجال الأمثال والأغانى والحكايات، ودلَّلت على أن التراث يتجدد عبر انتقاله من جيل إلى جيل، وهناك إبداعات للجيل الجديد تملأ فراغات الذاكرة الجماعية وتسقط عمدًا من التراث ما لا يتناسب مع حاضرها وتضيف عناصر جديدة تجعل من العنصر التراثى شيئًا حميمًا للجيل الجديد، وبعض الصياغات الجديدة أو المبتكرة هى تنويع من صياغات قديمة تتناسب مع الحاضر، وللمبدعين قدرات خاصة فى القيام بهذه العملية، رغم أنهم فقراء ويستمدون رؤى العالم من تلك البيئة الفقيرة.

ودلَّلت على أن التراث يتجدد عبر انتقاله من جيل إلى جيل، وهناك إبداعات للجيل الجديد تملأ فراغات الذاكرة الجماعية وتسقط عمدًا من التراث ما لا يتناسب مع حاضرها وتضيف عناصر جديدة تجعل من العنصر التراثى شيئًا حميمًا للجيل الجديد، وبعض الصياغات الجديدة أو المبتكرة هى تنويع من صياغات قديمة تتناسب مع الحاضر.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة