التحقت بمدرستى الابتدائية فى قريتى «َكوم الآطرون- طوخ- قليوبية» عام 1967، بعد سبع سنوات من افتتاحها، كانت نموذجية فى كل شىء، فمساحتها 42 قيراطا، ومبناها فريد، وفيها كل أدوات العملية التعليمية، حيث يوجد الملعب الكبير، وفناء متسع يتم فيه طابور الصباح، ومعامل لكل المواد العلمية والأنشطة بما فيها الموسيقى، ومكتبة لها حصة أسبوعية، ومساحات متوفرة للحدائق المزينة بالأزهار، ومنحل ينتج العسل، ونقوم بتعبئته بعد قطفه، وهذا التفرد كان يكتمل بعملية تعليمية يقودها مدرسون أكفاء قضيتهم الأساسية «التربية مع التعليم»، ولم يكن هناك شىء اسمه الدروس الخصوصية، فالمدرسة هى المكان الوحيد الذى نتحصل فيه على التعليم المميز.
طافت هذه الأيام بذاكرتى وأنا أحضر مساء السبت الماضى مهرجانا كبيرا فى القرية تكريما لـ62 متفوقا ممن نجحوا فى شهادات الابتدائية والإعدادية والثانوية، وممن حصلوا على الدكتوراه والماجستير فى عام 2017.
كان المشهد بهيا ومتألقا، فالحضور زاد على الألف من مختلف الأعمار والفئات والسيدات مع الرجال، والكل كان فى حضرة سيرة الرجل الذى كان السبب فى كل هذا وهو عمدة القرية الراحل العظيم الاستثنائى الحاج عزت عبد الحفيظ، حيث أطلق مجموعة الشباب القائمين على الحفل اسمه على التكريم، وكذلك على الدروع التى حصل المتفوقون عليها، لأنه الرجل الذى تبرع بمساحة الـ42 قيراطا من أملاكه لإقامة المدرسة التى تحولت الآن إلى مجمع مدارس، وتعاقب عليها أجيال طوال الـ57 عاما الماضية، ومنهم الذين تم تكريمهم، وقصة تبرعه لم تحمل ألغازا ولا ضغوطا ولا إجبارا من أحد، ولم يشترط مثلا أن تحمل اسمه مقابل تبرعه، ولا فكر فى ذلك طوال حياته التى استمرت حتى عام 1992 وكان عمره نحو 72 عاما، هو فعل ما فعله بعقل وقلب، رجل حلم بأن ينتقل أبناء قريته من ظلام الجهل إلى نور العلم، ومن الاستسلام للفقر إلى البحث عن حياة كريمة تتحقق بفضل التعليم، الذى كان يضمن وقتها لكل حامل شهادة وظيفة تعينه على حياة محترمة، وفعل ذلك وسط مناخ عام كان يحفز الجميع على العطاء، مع تفتح منه للمستقبل اكتسبه بفضل وصوله فى التعليم إلى مرحلة البكالوريا فى القاهرة، وكان مع الكاتب الروائى إحسان عبدالقدوس فى نفس الفصل الدراسى.
بدأت قصة هذا التبرع فى لقاء مع كمال الدين حسين وزير التربية والتعليم وقتئذ، وكان الوزير يقيم فى مدينة بنها التى تبعد عن قريتنا بنحو 15 كيلو مترا، وتربطه بالعمدة مودة دائمة، وفى اللقاء أخبره الوزير بأنه فى حال توفر الأرض سيتم فورا بناء مدرسة للقرية، فأخبره العمدة بأن الأرض موجودة، وعلى الفور بدأت إجراءات تنازله عن الـ42 قيراطا لتتم عملية البناء فى سرعة رهيبة، أدت إلى أن تبدأ الدراسة بالمدرسة فى نفس عام التبرع أى عام 1960.
ولأنى كنت قريبا منه وكان يعاملنى كابن، سألته ذات مرة عما إذا شعر بالندم يوما ما مع تغير الظروف وغلاء الأرض، فأكد لى أنه لم يندم أبدا على ما فعل، لأن حلمه ببساطة تحقق، وقال ضاحكا: «المدرسة خلتنى بقيت عمدة على المتعلمين والمثقفين».
رفرفت سيرة هذا الرجل العظيم فى الاحتفال، فعرف المتفوقون نموذجا للعطاء دون أن يطلب صاحبه شيئا، فتحية له وللشباب الذى فكر واجتهد فأقام هذا الاحتفال، وتحية للعالم الكبير ابن القرية الدكتور سمير غنيم مؤسس كلية الزراعة بجامعة قناة السويس، ومؤسس كلية الثروة السمكية بالعريش الذى تقدم الحضور، والنائب البرلمانى السابق رضا عبدالرحمن.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة