كنا قد بدأنا فى الأسبوع الماضى الحديث حول المعونة الأمريكية، وعلاقتها بمنظمات المجتمع المدنى، وذلك على تداعيات قرار الولايات المتحدة الأمريكية تخفيض المعونة لمصر بواقع 95.7 مليون دولار كمساعدات، وتأجيل 195 مليون دولار، بحجة عدم إحراز تقدم فى مجال احترام حقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية، حيث هاجمت مجلة «ذا أمريكان سبكتاتور» وزارة الخارجية الأمريكية والبيت الأبيض بعد خفض المعونة المصرية بنحو 290 مليون دولار، ونشر جاى هومنيك، المحلل السياسى البارز فى مركز لندن للسياسات، فى مقال تحت عنوان «لا تخسر السيسى.. لماذا تصر وزارة الخارجية الأمريكية أن تظل على الفراش مع جماعة الإخوان؟».
كما يرى «هومنيك» من خلال مقاله أن هناك فخًا يصنع للرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى، ويجب أن ينتبه الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، وأن يوقف من يخطط لهذا الفخ، لافتًا إلى أن الإخوان ليسوا بمعزل عن كل المؤامرات التى تحاك ضد مصر، وأن «السيسى» تولى حكم مصر فى ظل ظروف ضبابية متشابكة، لا سيما أنه تقلد رئاسة مصر عقب ثورة شعبية ضد محاولات الإخوان لتعديل الدستور، لإعطاء أنفسهم صلاحيات مفتوحة، لافتًا إلى هذه الأجواء انعكست على الوضع الداخلى الأمريكى، مما جعل من الصعب على الأمريكيين أن يكونوا جميعًا فى صف الرئيس المصرى، مؤكدًا أن «السيسى» الرجل المناسب للمرحلة التى تمر بها مصر.
واختتم «هومنيك» مقاله قائلًا: «وجدت فى مصر أشخاصًا ديمقراطيين يرغبون فى العيش بسلام ومكافحة الإرهاب، يرون أن المسلمين والمسيحيين إخوة، وأن المسيحيين فى مصر ليسوا أقلية ولا تتم معاملتهم كأقلية، وأن السيسى قد خصص الأموال العامة لإعادة بناء الكنائس المتضررة من الإرهاب».
فبالإضافة إلى الرأى التحليلى لـ«هومنيك»، جاءت مكالمة دونالد ترامب، الرئيس الأمريكى، إلى الرئيس عبدالفتاح السيسى، لتؤكد وجود ما يمكن وصفه بصراع المؤسسات داخل الولايات المتحدة الأمريكية، ففى اعتقادى أن «ترامب» من خلال هذه المكالمة حاول أن يجنب العلاقات المصرية الأمريكية أى تداعيات سلبية للقرار الأخير المتخذ من جانب الكونجرس والخارجية الامريكية، وأن قرار تخفيض المعونة صدر بضغوط من مراكز البحث والفكر داخل الولايات المتحدة والإعلام الأمريكى، وهو ما يؤكد عدم ميل «ترامب» إلى هذا القرار.
يجب أن يكون لدينا فهم عميق لطبيعة مجريات ما يحدث فى الداخل الأمريكى، وأن ترامب يواجه حالة من محاولات إحراجه على المستوى الدولى مع عدد من الدول والحلفاء، وهذا ما اتضح فى قرارات الكونجرس الأخيرة بفرض عقوبات على عدد من الدول، فـ«ترامب» مازال يحاول أن يواجه هذه المحاولات، ويحافظ على علاقاته بعدد من الدول، وإيمانه بدورهم، وبالتأكيد منهم مصر، وهذا الفهم قد انعكس على رد الرئيس السيسى عن تقديره للرئيس ترامب، مؤكدًا أهمية استمرار التنسيق والتشاور المكثف بين البلدين حول جميع الموضوعات ذات الاهتمام المشترك، بما يعزز العلاقة الاستراتيجية بين الدولتين، ويحقق مصالح الشعبين الصديقين.
أما عن قرار تخفيض المعونة ذاته، فأعتقد أنه جاء ردًا على قانون الجمعيات الأهلية، فالمراكز البحثية داخل الولايات المتحدة الأمريكية لها دور كبير فى عملية صنع القرار الأمريكى، حيث شنت حربها على القانون بعد أن أُغلقت فروع هذه المراكز فى مصر لمخالفتها القانون، وهو ما حدث بإغلاق المعهدين، الديمقراطى والجمهورى، بسبب المخالفات، فيما يعرف بقضية التمويل الخارجى، وهو ما أثار حفيظة هذه المراكز التى تولت الحرب على القانون والضغط لتخفيض المعونة الأمريكية.
كما أنه من خلال زيارتنا الأخيرة فى رمضان الماضى للولايات المتحدة الأمريكية كوفد يمثل البرلمان المصرى، وفى أثناء لقاءاتنا مع بعض المراكز البحثية، دار الحديث عن هذا القانون، والمفاهيم المغلوطة التى وصلت إليهم من نشطاء مصريين مزدوجى الجنسية، ومن تقارير نقدية للقانون، فقد اكتشفنا أنهم لم يطلعوا على نصوص القانون الأصلية، إلا أن قرار الكونجرس من الممكن اعتباره بأنه نوع من الانتقام، نظرًا لأن بعض عملائهم من منظمات المجتمع الأمريكية قد أغلقت فى مصر، ومن هذا المنطلق فى تقديرى أن تخفيض جزء من المساعدات الأمريكية لمصر يعنى انتصار بعض منظمات المجتمع المدنى فى الداخل الأمريكى على إرادة الإدارة الحاكمة، وقدرة بعض منظمات المجتمع المدنى على تضخيم الأمور بمساعدة وسائل الإعلام فى القدرة على تمرير هذا القرار بدعم من بعض العناصر من الداخل المصرى، سواء كان ذلك من المنظمات الحقوقية، أو من بعض النشطاء أصحاب الخلفية الإخوانية، مثل محمد سلطان، وآية حجازى، ممن لقوا دعمًا من قطر فى إطار الحرب الإقليمية على مصر، ومن جماعة الإخوان ومواليها، بعيدًا عن إقناع أو عدم إقناع الأمريكان بما حققته مصر من تقدم وإنجاز فى العديد من الملفات، التى تأتى فى مقدمتها ملفات حقوق الإنسان والديمقراطية والأمن، فخفض المعونة الأمريكية لمصر قضية مسيسة بلا أى أدنى شك أو مواربة.
إلا أنه يجب أن نعى جيدًا أن رقم المعونة الأمريكية لا يمثل شيئًا مما توفره مصر للولايات المتحدة الأمريكية، من خلال تسهيلات عبور القطع العسكرية الأمريكية لقناة السويس، وسهولة المناورة بين أسطولها الخامس والسادس الموجودين فى البحرين المتوسط والأحمر، وهو ما يوفر للخزانة الأمريكية ما بين 5 و8 مليارات دولار سنويًا، وهو ما يقف عليه «البنتاجون»، وما يجهله الكثيرون من الساسة الأمريكيين، فمصر قادرة على الرد بقوة على قرار تخفيض المعونة بإلغاء هذه التسهيلات، إلا أنها تأبى، لتفويت الفرصة على بعض المؤسسات التى تسعى لإفشال ساكن البيت الأبيض الجديد، ومحاولات ضرب علاقة الرئيس عبدالفتاح السيسى بدونالد ترامب.
وإن كان فى العمر بقيه نستكمل فى الأسبوع المقبل حديثنا حول تاريخ ابتزاز مصر بالمعونة الأمريكية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة