احتفى عبدالناصر بالثورات والمعارك الوطنية فى تاريخ مصر الحديث، فثورة عرابى هى قمة رد الفعل الثورى ضد النكسة التى أصابت مصر بعد فشل محمد على، وفتحت مصر بابًا للاحتكارات المالية الأجنبية. ثم قامت ثورة 1919 التى يصفها عبدالناصر بـ«الثورة الكبرى».. «قامت الثورة الكبرى سنة 1919 بعد كفاح طويل ضد العدوان الخارجى وضد السيطرة الداخلية.. وقامت الثورة تطالب بالدستور الذى يعلن حق هذا الشعب فى الحياة وحق هذا الشعب فى الحرية».
لكن الميثاق «الوثيقة الأساسية للناصرية» يتراجع عن وصف ثورة 1919 بالثورة الكبرى، ويورد ثلاثة أسباب لفشل ثورة 1919، الأول يدور حول إغفال القيادات الثورية لمطالب التغيير الاجتماعى نتيجة أن المرحلة التاريخية جعلت من طبقة كبار ملاك الأراضى أساسًا للأحزاب السياسية التى قادت الثورة، والسبب الثانى غياب البعد العربى عن قيادات الثورة، أما السبب الثالث فهو عدم قدرة قيادات الثورة على تطوير أساليب نضالها، بحيث تتماشى مع أساليب الاستعمار، وبالتالى ارتضت باستقلال شكلى لا مضمون له، وحياة حزبية تفرق ولا تجمع، حيث تحولت إلى ملهاه تشغل الناس وتحرق الطاقة الثورية، ثم جاءت معاهدة 1936 بمثابة صك الاستسلام للخديعة الكبرى التى وقعت فيها ثورة 1919، فمقدمة المعاهدة تنص على الاستقلال بينما صلبها يسلب هذا الاستقلال كل قيمة له وكل معنى.
وأعتقد أن السببين الأول والثالث اللذان أوردهما الميثاق لتفسير فشل ثورة 1919 مستمدان أصلا من مفهوم عبدالناصر للثورة الوطنية الاجتماعية أو الثورة الشاملة بتعبير الميثاق، وكان هذا المفهوم أحد الأفكار الأساسية التى تبلورت وتبنتها حركات التحرر الوطنى فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، وقد تأثر به عبدالناصر والضباط الأحرار، وصار من الأفكار والبرامج الأساسية لثورة يوليو. من هنا قد يبدو من غير الملائم استخدام مفهوم الثورة الوطنية–الاجتماعية كمعيار لتقييم ثورة 1919 وأداء زعمائها، بكلمات أخرى لم يراع عبدالناصر والميثاق الظروف المحلية والدولية التى أحاطت بثورة 1919 وحددت الخيارات المتاحة أمام زعمائها، ولم يضع فى اعتباره الأفكار التى كانت توجه حركات التحرر الوطنى آنذاك، ويمكن القول بأن المنهج التاريخى المقارن قد يساعد فى إعادة النظر لثورة 1919 وتقييمها فى ضوء الثورات الوطنية المعاصرة لها، والتى تفجرت فى العالم العربى أو فى دول آسيا وأمريكا اللاتينية.
من زاوية أخرى لم يكن عبدالناصر راضيًا فيما يبدو عن الدور الشخصى لسعد زغلول كقائد للثورة، لأنه لم يكن ثوريًا بالدرجة الكافية، أو ربما لأن شرعية ثورة 1919 كانت تؤسس لشرعية حزب الوفد الذى تخلى عن تاريخه بعد حادثة 4 فبراير وتحالفه مع الإنجليز ضد القصر، وبشكل عام كان الوفد وتاريخه وشرعيته ضمن خصوم عبدالناصر ومشروعه. لكن الحديث عن أحمد عرابى وسعد زغلول وجمال عبدالناصر نفسه يفتح المجال لمناقشة قضية إدراك عبدالناصر لدور الفرد فى صناعة الأحداث وقيادة التاريخ، حيث يناقش الخطاب الناصرى منذ فلسفة الثورة 1954 أبعاد وملامح دور الإنسان المسلح بالوعى الثورى وإرادة التغيير فى صنع التاريخ، حيث ركز على ثلاثة قوى رئيسية تجسد الدور الإنسانى فى صنع التاريخ وهى: أولا: الشعب المصرى، وثانيًا: الطليعة الثورية فى قيادة الثورة وتنظيم الجماهير، وثالثًا: الزعيم أو البطل القادر على استيعاب الظروف التاريخية والتعبير عن مصالح الشعب واحتياجات المرحلة وأهدافها.
ولم يهتم عبدالناصر بتوضيح العلاقة بين القائد والطليعة، أو بين القائد والجماهير، بل اكتفى فى أكثر من مناسبة بالتقليل من أهمية دور القائد أو الزعيم فى صنع أحداث التاريخ وقيادة حركة التاريخ، ربما لإدراكه بعمق دوره كقائد للثورة، ورغبته فى تفعيل الكتلة الجماهيرية عبر تحالف قوى الشعب العامل لتكون بديلاً أكثر موضوعية عن سلطة القائد الفرد وإمكانياته، وثمة إشارة واضحة جاءت على لسان عبدالناصر يقول فيها:«أنا مستعد لوحدة بدون عبدالناصر.. إنى سوف أكون بره الوحدة، لأن كل ما ركز على شخصى فى النهاية خطر على القضية القومية.. شخصى غير دائم.. بيقعد سنة.. اثنين أو ثلاثة.. كل فرد زائل».
على أن فكرة دور البطل أو الزعيم فى التاريخ، أى دوره الشخصى، لم تكن خافية تمامًا عن عبدالناصر، بل أعتقد أنها راودته كثيرًا وأثرت فيها، ولكن ضمن شروط، حيث عبر عنه صراحة فى فلسفة الثورة عندما كتب: «إن ظروف التاريخ مليئة بالأبطال الذين صنعوا لأنفسهم أدوارًا بطولة مجيدة قاموا بها فى ظروف حاسمة على مسرحه، وأن ظروف التاريخ أيضًا مليئة بأدوار البطولة المجيدة التى لم تجد بعد الأبطال الذين يقومون بها على مسرحه».
مثل هذا الاستشهاد الطويل قد يكشف عن وعى عبدالناصر المبكر بدور الفرد، البطل فى التاريخ، ضمن شروط وعوامل موضوعية، لكن اللافت للانتباه أن عبدالناصر تجنب فى أحاديثه وخطبه المعلنة تناول هذا الموضوع، ويمكن تفسير ذلك فى ضوء اعتبارين، الأول: أن مسألة دور الفرد، البطل فى حركة التاريخ تتصل بدور عبدالناصر الشخصى ومكانته على رأس الثورة والدولة فى مصر، وكان هذا الدور، ومازال، موضعًا للهجوم والنقد من قِبل خصوم عبدالناصر فى الداخل والخارج. من هنا لم يهتم عبدالناصر بتوضيح علاقة الفرد، البطل بالشعب، أو علاقة الفرد البطل بحركة التاريخ حتى لا يُستخدم هذا التفسير كمادة للهجوم على التجربة.
الاعتبار الثانى: أن عبدالناصر اهتم بدور الطليعة أو الطلائع الثورية واعتبر أن هذا الدور هو البديل الموضوعى لدور الفرد- القائد، وبالتالى اعتبر نفسه واحدًا من العناصر الطليعية فى المجتمع. والواقع أن اهتمام وتركيز عبدالناصر على دور الطليعة الثورية فى صنع الأحداث وتحريكها تفوق على اهتمامه بدور الشعب أو الجماهير أو حتى تحالف قوى الشعب العامل، وذلك رغم كثرة استخدامه لمفاهيم الشعب والجماهير وتحالف قوى الشعب العامل.
الخلاصة أن التجربة الشخصية والتاريخية لعبدالناصر، والتى صاغ بعض مكوناتها فى فلسفة الثورة، تشى بهاجس عبدالناصر تجاه عدم فاعلية الجماهير غير المنظمة، وتجعله يضاعف من إيمانه ورهاناته على الطليعة باعتبارها قادرة على تنظيم الجماهير. لقد اختلفت مراحل الثورة وتجاربها خاصة فى مجال تنظيم الجماهير عبر هيئة التحرير والاتحاد القومى والاتحاد الاشتراكى، ومع ذلك بقيت فكرة التنظيم السرى الخاص مُسيطرة على الفكر والممارسة ولتخلق مشاكل عديدة لا مجال لمناقشتها، لكن يكفى هنا التقاط دلالة أن خبرة عبدالناصر فى التنظيم السرى الطليعى داخل الجيش، ونجاح هذا التنظيم فى مهمة الإطاحة بالنظام الملكى، مقابل اعتقاده فى عدم فاعلية الجماهير غير المنظمة، جعل عبدالناصر يتمسك بفكرة التنظيم الخاص السرى ويزداد إيمانًا بفاعليته فى حماية الثورة وتنظيم الجماهير.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة