السؤال يطرح دائمًا بإلحاح، خاصة فى ذكرى الثورة، ربما لأن الثورة لم تكتمل، فهى لم تحقق كل أهدافها، وربما لأن هناك صراعات وانقسامات حول الثورة نفسها ومسارها ونتائجها، فهناك من يروج فكرة أنها مجرد مؤامرة من الإخوان وقوى خارجية، وهناك من يرى أنها ثورة شعبية عظيمة، فجرها الشباب ودعمها الجيش، لكن الإخوان كأقلية منظمة سيطروا عليها، وهناك من يرى أنها مجرد انتفاضة أو هبّة شعبية، لم يكن لها قائد أو برنامج عمل محدد غير الآمال المشروعة فى الحرية والعدالة الاجتماعية.
وبغض النظر عن هذه السرديات، فإننى أرى أنها ثورة غير مكتملة، أو انتفاضة شعبية عظيمة، كان يمكن أن تحدث تغييرات ثورية عظيمة لولا ظروف داخلية وخارجية عرقلت مسيرتها وشوهت نتائجها، وأعتقد أنه عند الحديث عن الظروف أو الأطراف الخارجية التى عرقلت ثورة يناير، لابد من الاعتراف بوجود دول عربية وأجنبية تآمرت على هذه الثورة، ومنعتها من التطور والاكتمال، وقد نشطت هذه القوى بعد الإطاحة بمبارك، وليس قبل ذلك، كما يروج أنصار التفكير بالمؤامرة، لأنه كان يهمها الحفاظ على مصالحها فى المنطقة، وفى هذا الإطار يهمها إضعاف مصر ومنعها من استعادة دورها التاريخى والمنطقى فى قيادة المنطقة العربية.
على أى حال فإن تقديرى الشخصى لـ25 يناير أو أى أحكام أخرى يمكن أن تنشر أو تذاع هنا أو هناك، ستظل وجهات نظر أو قراءات مختلفة لا تخلو من مصالح ومشاعر ارتبطت بالحدث نفسه.. إننا جميعًا وأغلب من يتحدث الآن أو يكتب عن 25 يناير، كانوا من معاصريها، وكما يقال فإن المعاصرة حجاب يمنع الرؤية الموضوعية، لذلك لابد من الانتظار عدة سنوات حتى تنشر وثائق رسمية، وتتضح كثير من الحقائق، كما تتبلور النتائج الفعلية للثورة ذاتها، من أجل أن نمتلك مقومات للحكم على الثورة وتقييمها بنزاهة، وفيما يلى عدد من الملاحظات التى أرجو أن يشاركنى القارئ التفكير فيها فى شأن القراءات الرائجة عن 25 يناير:
أولًا: إن الانتفاضة الشعبية فى مصر لم تحقق أهدافها حتى اليوم، حيث لم يتحقق تغيير واسع المدى وعميق فى مجالات الاجتماع والاقتصاد والسياسة، كذلك من الصعب القول إنها وصلت إلى نهايتها، فالصراع الفكرى والسياسى حول الشعارات والأفكار التى طرحتها 25 يناير لا يزال مستمرًا، ولم تحسم الصراعات والاستقطابات التى فجرتها بصورة نهائية أو يتحقق الاستقرار، ومن الواضح أن المستقبل رهن بنجاح الحرب على الإرهاب والإصلاح الاقتصادى، وهو رهان خطير، لأنه لا اقتصاد ناجحًا من دون ديمقراطية وعدالة اجتماعية.
ثانيًا: اختلف مسار الثورة المصرية عما جرى فى تونس وسوريا وليبيا واليمن، فالدولة المصرية أقوى وأرسخ، كما أن جيشها الوطنى لعب دورًا حاسمًا فى دعم ثوار 25 يناير، والتصدى للإخوان والقوى الخارجية.. المعنى أنه من غير المنطقى التعامل مع انتفاضات الشعوب العربية على أنها ظاهرة واحدة، لأنه يؤدى إلى تعميم مضلل فى إدراك ما جرى خلال السنوات السبع الماضية، ومن ثم الوصول إلى استنتاجات أو ربما سيناريوهات غير دقيقة للمستقبل. وأتصور أن مصطلح الربيع العربى كان أحد أهم أسباب إنتاج وترويج التعميم المخل فى إدراك وتحليل مسار الثورات العربية غير المكتملة، فالمصطلح تحول إلى أيقونة إعلامية جذابة ومثيرة، لكنه غطى على تفاصيل كثيرة وفروق عديدة بين الدول العربية.
ثالثًا: إن هناك سلبيات فى مسار انتفاضة 25 يناير، لكن من غير المنصف تحميلها المسؤولية الكاملة عن كل المشاكل الاقتصادية والثقافية والتعليمية التى نعانى منها حاليًا، ونحاول التغلب عليها، لأن الحقائق على الأرض تؤكد المسؤولية التاريخية والأخلاقية لنظام مبارك، الذى سمح للإخوان بالعمل فى السياسة، وحاصر المجتمع المدنى، وأضعف الحياة السياسية والنقابات، كما لم يهتم بالتعليم أو بناء اقتصاد يعتمد على الذات، أضف إلى ذلك السنة الكارثية التى حكم فيها الإخوان مصر، وأدت إلى تدهور مؤسسات الدولة والاقتصاد.
رابعًا: من أهم الإيجابيات التى حققتها 25يناير والانتفاضات الشعبية العربية، أنها أكدت قدرة الشعوب على إسقاط النظم الاستبدادية الفاسدة، التى تعتمد على نخب أو قاعدة اجتماعية ضيقة من المستفيدين، وقد تبدو فكرة الخروج على السلطة وإسقاطها من قبيل البديهيات فى العالم المعاصر، إلا أنها كانت فى تاريخ العرب الحديث بمثابة فرضية غير قابلة للتحقق، لأن التغيير كان يتم من خلال موت الحاكم أو بانقلاب عسكرى يأتى بنخب جديدة، ربما كانت أسوأ من النخب القديمة التى أطيح بها. ولا شك فى أن ربيع العرب أكد إمكانية تحرك الشعوب ضد النظم الاستبدادية، وقدرتها على التحرر من الهيمنة الناعمة والخشنة لهذه الأنظمة، وفرض إرادتها فى التغيير حتى وإن لم يكن تغييرًاشاملًا.
خامسًا: بقاء عديد من المكاسب الدستورية، الخاصة بالحريات، خاصة حرية الصحافة والإعلام واحترام حقوق الإنسان ونزاهة الانتخابات، والثابت أن مطلب الحريات لم يكن غائبًا عن ثوار 25 يناير، فقد رفع المتظاهرون شعار «عيش، حرية، عدالة اجتماعية»، وهو ارتباط مهم بين الحريات والعدالة الاجتماعية، أظن أنه لن يُمحى من الذاكرة الجماعية لملايين المتظاهرين فى الميادين والشوارع، وأظن أنه حفر فى الثقافة السياسية، لأنه لم يكن وليد اللحظة الثورية، وإنما كان حاضرًا فى الخطاب السياسى العربى منذ الثمانينيات، بعد فشل التجارب السياسية العربية التى ادعت تحقيق العدالة الاجتماعية كشرط للحريات وحقوق الإنسان.. القصد أن هناك مكاسب تحققت، ولا تزال حاضرة ومؤثرة تتعلق بالحريات، والوعى العام، والحفاظ على نزاهة الانتخابات، وحرية الرأى والتعبير من خلال وسائل الإعلام التقليدية والجديدة، وقد أثبتت وسائل التواصل الاجتماعى فى مصر وتونس خلال الأعوام الأخيرة قدرتها على الحفاظ على فضاء عام حر، ومن ثم التأثير فى الأحداث وفضح بعض عمليات التضليل الإعلامى والتلاعب بالرأى العام.
سادسًا: يبقى أخيرًا كسر كثير من المحرمات المسكوت عنها، فللمرة الأولى تطرح للنقاش على نطاق جماهيرى واسع إشكاليات العلاقة بين الدين والسياسة، وضرورة تجديد الخطاب الدينى، وحقوق الأقليات فى الدولة الوطنية، وحقوق المرأة والشباب والمعوقين، وغيرها من القضايا التى لم يكن مسموحًا بها. وأتصور أن طرح هذه الإشكاليات دفعة واحدة، وفى مناخ من الاستقطاب السياسى شكّل حالة من الارتباك وعدم اليقين لدى قطاعات واسعة، ربما لأنها تعرفت وللمرة الأولى إلى الليبرالية والجماعات السلفية والجهادية، كما أعيد تعريف الإرهاب والجهاد.
ومهما كانت نتائج النقاش العام حول هذه الإشكاليات، فإن المحصلة جاءت إيجابية، خاصة أنها حسمت فى مصر، وبالتجربة العملية، حقيقة السلوك الانتهازى لجماعة «الإخوان المسلمين» وبعض الجماعات الإسلاموية التى تتعمد الخلط بين الدينى المقدس، والسياسى الدنيوى، لخداع الناخبين، والوصول إلى السلطة لتحقيق مكاسب ضيقة لأعضاء الجماعة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة