-الخليفة المأمون كان متسامحا جدا مع المسيحيين واليهود والصابئة
-المسلمون لم يجبروا أحدا على دخول الإسلام لأسباب سياسية واقتصادية أهمها الجزية
-المسيحيون العرب مسلمون بالثقافة واللغة وأثروا وتأثروا بالثقافة الإسلامية.. ومصطلح الحروب الصليبية بدعة والأصل هو «حروب الفرنجة»
يدخل القس الدكتور وجيه ميخائيل، مدرس المسيحية العربية، بكلية اللاهوت الإنجيلية عش الدبابير بالعلم، إذ يقتحم مناطق مجهولة بقصد أو بدون فى التاريخ المسيحى، ويكشف النقاب عن علاقات التأثير والتأثر بين الدينين الأساسيين فى المنطقة العربية، بدقة الباحث التى لا يشوبها التعميم ولا يخالطها ما يعكر الدقة.
القس الدكتور وجيه ميخائيل
وفى حواره مع «اليوم السابع» يجيب القس الدكتور وجيه ميخائيل عن الكثير من الأسئلة التى تدور فى الأذهان حول تاريخ المسلمين والمسيحيين فى الشرق الأوسط، حيث يرى أن الفرق بين الاثنين هو يوم الجمعة ويوم الأحد، دون أى فروق أخرى تستحق الذكر، وإلى نص الحوار.
ماذا يعنى مصطلح المسيحية العربية؟
- المسيحية العربية هى المسيحية التى يفكر اتباعها بمعطيات الثقافة العربية ويتحدثون اللغة العربية، وهو تعريف شامل رغم وجود نزعات قومية أو متعصبة، مثل من يطلقون على أنفسهم أقباط فقط أو فينيقيين أو فراعنة، وهى نبرة عرقية موجودة لدى الكثير من الأقليات العرقية أو الإثنية أو الدينية فى الشرق الأوسط، ولكن بظهور الإسلام ومن بدايات القرن التاسع الهجرى بدأ المسيحيون الشرقيون يستخدمون اللغة العربية كلغة عبادة، وهى الحركة التى تلت قرار تعريب الدواووين الذى اتخذه الخليفة عبدالملك بن مروان فى القرن التاسع الميلادى، وظهرت ترجمات للكتاب المقدس باللغة العربية، وظهرت كتب العبادة ذات النهرين أى عمود قبطى وعمود عربى، أو عمود عربى وآخر سريانى، مما أثر على تركيبة الشخص الذى يصلى باللغة العربية وأصبح يتجه للغة العربية ومن ثم الثقافة.
البابا تواضروس
الثقافة العربية التى احاطت المسيحيين الشرقيين شكلتهم وجعلتهم عربًا ومسلمين بالثقافة، لأننا لا ننكر أن الارتباط بين الإسلام والعروبة ارتباط عضوى، فأول كتاب عربى كامل هو القرآن الكريم، ولا أعنى أن القرآن جاء باللغة العربية بل هى أسبق من وجوده، ولكنى أقصد أنه أول كتاب متكامل، وبالتالى فإن اللغة اليومية للمسيحيين الشرقيين تأثرت بتعبيرات القرآن ومفرداته، وترك أثره فى المعاملات وفى لغة الحديث، وبناء عليه فإن المسيحيين العرب هم من يفكرون بمنطق اللغة العربية ويحلمون بها.
كيف أثرت حركة تعريب الدواوين على غير الناطقين بالعربية؟
- لابد أن نفهم هذه الحادثة فى سياقها التاريخى، عبدالملك بن مروان لم يفرض اللغة العربية على الكنائس ولا على أى شىء آخر حتى إنها تسمى تعريب الدواوين، فما تم تعريبه هو الدواوين الحكومية، ولكن بالتبعية وجد أصحاب اللغات الأخرى أنفسهم مدفوعين لتعلم العربية، فمن يتحدث اليونانية أو القبطية فى هذا العصر سيضطر لتعلم العربية لكى يعيش فى الواقع الجديد، لأنها لغة المعاملات والمخاطبات الرسمية، وأود الإشارة هنا إلى استقبال هذا القرار شعبيا، فالقرار لم يكن مرفوضا مثلما يتصور البعض، بل إن حنين ابن إسحق وهو أحد اللاهوتيين العرب أعرب فى خطاب له عن سعادته بذلك، وقال: «بركة من الله أننى أجيد ثلاث لغات، العربية واليونانية والسريانية»، ما يشاع عن قطع لسان الأقباط إذا تحدثوا القبطية مجرد أساطير لا أساس لها من الصحة ولا وجود لها فى التاريخ، وإنما هى أقوال يروجها المتعصبون، الرجل الذى عاصر تلك الأحداث يصفها ببركة من الله، فكيف لنا أن نحكم عليها بمعايير عصرنا؟ إذا وضعت نفسى فى مكان مسيحى سريانى يعيش فى دمشق آنذاك وصدر قرار من الخليفة بتغيير اللغة الرسمية، قد يشعر أنه سيكتسب لغة جديدة، وعلينا أيضا أن ننظر لرؤية الحاكم وأن نضع أنفسنا مكانه.
هل تعنى أن عبدالملك بن مروان لم يفرض اللغة العربية بغرض السيطرة إنما لأسباب منطقية؟
- كان عبدالملك بن مروان يحكم كل ما يسمى اليوم بالشرق الأوسط أو العالم العربى، وكل هذه الأقطار كانت خاضعة لحكمه فى إطار تأسيسه للدولة الأموية الناشئة التى صارت إمبراطورية كبيرة جدا متعددة اللغات، ففيها اليونانى والعربى والسريانى ولغات محلية أخرى، فكيف يتم توحيدها إن لم يكن لها لغة واحدة فقط، وقد فعل الخليفة ذلك لكى يوحد الدولة دون رغبة فى إقصاء اليونانيين أو الأقباط أو غيرهم، فجزء من رغبته فى توحيد الدولة هو رسم حدود لها، ومن ثم وجود جيوش على الحدود عليها أن تتحدث لغة واحدة، كما أنه وحد العملة أيضا فى إطار سعيه لتوحيد الدولة، كما أنه أزال الصليب من على العملات المعدنية فى بعض الأقطار ووضع الشهادة الإسلامية بدلًا منها، وهو أمر منطقى ومفهوم لحاكم مسلم، بل هو خليفة المسلمين، لأنه صاحب القوة، وجزء من رغبته فى السيطرة على الإمبراطورية الناشئة هو توحيد اللغة، وبهذا المنطق نستطيع أن نتفهم دوافعه وأهدافه.
اختلف المؤرخون حول لحظة دخول الإسلام مصر، البعض اتهم عمرو بن العاص باستخدام العنف ضد المسيحيين فى حين برأه كثير من الكتابات، ما رأيك؟
- علينا أن نرجع مرة أخرى لشهادات من عاصروا الأحداث، وسأضرب مثلًا بعيدًا عن السؤال، ولكنه مثال كاشف، اللفظة «الحروب الصليبية» تعبير خاطئ لم يعرفه التاريخ، ولكى أسميها باسمها الطبيعى علينا أن نعود للمؤرخين الذين عاصروا الحدث، وقد أطلقوا عليها حروب الفرنجة، فتعبير الحروب الصليبية ليس معاصرا للأحداث بل هو تعبير حديث، وبالقياس سأطبق هذا المثل على دخول المسلمين مصر، ففى الأحداث التاريخية نجد نوعين من التوجهات فى تفسير الحدث، الأول يمينى والآخر يسارى، بالمنطق اليمينى الذى يروجه المتعصبون هو أن دخول الإسلام مصر لحظة سوداء فى تاريخها، إلى آخر هذا الخطاب المتعصب، أما الخطاب اليسارى فيقدم صورة عكسية، ويقول إن الأمور كانت وردية، وشخصيًا أرى أن التوجه الأول خاطئ، أما التوجه الثانى فهو غير أمين ونشأ كرد فعل دفاعى على الرأى الأول، وفى تقديرى فإن التاريخ يقول إن المسلمين لم يجبروا أحدًا على دخول الإسلام، بل إن بعض الروايات التاريخية تقول إن بعض الفترات شهدت إيقاف الدعوة لدخول الإسلام لأسباب اقتصادية، فمن يدخلون الإسلام لن يسددوا الجزية، الأمر الذى سيؤثر على بيت مال المسلمين وميزانية الدولة كلها.
كيف تشكلت العلاقات بين المسلمين والأقباط فى العصور التى تلت عمرو بن العاص؟
- اتهام عمرو بن العاص بالتعصب ضد الأقباط أمر غير دقيق تاريخيا، والحقيقة أن العلاقات بين المسلمين والمسيحيين، لا تعيب الإسلام ولا المسيحية، ولكنها معلقة بمزاج الحاكم، ففى العصر العباسى وبعد وفاة عمرو بن العاص، جاء الخليفة المأمون الذى كان متسامحا جدًا مع المسيحيين واليهود والصابئة، ثم أتى بعده مباشرة الخليفة المتوكل الذى نكل بالمسلمين واليهود والمسيحيين وكان سلفيًّا، فالعلاقات بين المسلمين والأقباط متروكة لمزاج الحاكم وتركيبته وتوجهه نحو الآخر، وبناء على مزاج الحاكم يترتب على ذلك تصرفات المحكومين، لأنه من يضع سياسات الدولة.
فى تقديرك ما الفرق بين المسيحية الشرقية والغربية خاصة فى عصور ما بعد الإسلام؟
- أحد الفروق الجوهرية بين المسيحية العربية وغير العربية وخاصة الغربية، هو أن المسيحية العربية لم تكن أبدا مسيحية سلطة، فلم نسمع عن لاهوتى مسيحى صار رئيس دولة أو إمبراطورا، ولكن هذا الأمر حدث كثيرًا فى الغرب، وبالتالى فإن نظرة الغرب للسلطة مختلفة كليا عن نظرة المسيحيين العرب لها، المسيحيون العرب كانوا تحت تأثير هذا الصراع، لكنهم لم يكونوا يوما صناع قرار على العكس من المسيحيين الغربيين، وهو ما ترك أثره فى طبيعة المؤلفات المسيحية العربية التى تختلف عن المؤلفات المسيحية الغربية، خاصة فى العلاقة مع الإسلام، فالغرب نظرته للإسلام جاهلة بامتياز، حين جاءت حروب الفرنجة الشرق وجدوا أنفسهم أمام بشر يسمون المسلمين يبجلون ويحترمون رجلًا يدعى محمد، قاسوا الأمر على أنفسهم فقالوا بما أن المسيحيين يقدرون المسيح، فلا بد أن المسلمين يعبدون محمدًا، وأطلقوا على المسلمين المحمدين، وهى التسمية التى يكرهها المسلمون، لأنهم لا يعبدون محمد، وهى تسمية جاهلة لأنها لا تعبر عن واقع المسلمين، وحين جاء الفرنجة للشرق لم يتفهموا طبيعة المسيحيين الشرقيين، وعجزوا عن إيجاد اسم لهم، وتساءلوا: هل هم هراطقة أم مسيحيون أم غير ذلك؟
من القرن التاسع وحتى اليوم يعيش المسيحيون الشرقيون فى حوار مع الإسلام، والمسيحية الشرقية تشكلت بالنقاش مع الإسلام، وفى العصور الوسطى كان الشرق زاهى الألوان متعدد الأديان والأطياف.
الكاتدرائيه المرقسيه
وكيف كان موقف المسيحيين العرب من الحروب الصليبية أو حروب الفرنجة؟
- هناك الكثير من المسيحيين العرب شاركوا فى الحرب ضد الفرنجة، لأن كل سكان الشرق دفعوا ثمن هذه الحروب، وهى ليست حروبًا على الهوية تستهدف قتل المسلمين، بل هى حروب بهدف التوسع الإمبريالى وتدمير المنطقة، وهؤلاء السكان الشرق أوسطيون لا يفرق بينهم إلا الدين، وفى رأيى سكان الشرق لا يفرق بينهم إلا الجمعة والأحد، لأن الوعاء الثقافى واحد.
لماذا لم تصمد اللغة القبطية إلا داخل الكنائس؟
- أى لغة هى كائن حى، والكائنات الحية تمر بمراحل تطور، واللغة القبطية هى تطور للغات أسبق منها، وهناك شعوب كثيرة فى العالم غيرت لغتها أو اتخذت اللغة لديها أشكالا أخرى، كانت اللاتينية لغة إمبراطوريات كاملة واندثرت حاليا، والإنجليزية مثلا تغيرت عن زمن وليم شكسبير، ومن الطبيعى أن يحدث هذا، ولكن من غير الطبيعى أن نكون فى بلد غنى بتراثه مثل مصر، ولا ندرس اللغة القبطية فى الجامعات والمعاهد المصرية، الجامعة الوحيدة التى تدرس هذه اللغة هى الجامعة الأمريكية، وفى المقابل ندرس الفارسية والتركية والعبرية، وهو أمر مزعج للغاية.
ما هى أبرز مظاهر حركة التأثير والتأثر بين الإسلام والمسيحية فى الشرق؟
- بكل تأكيد تأثر المسيحيون العرب والمسلمون العرب ببعضهم البعض، ويظهر هذا الأمر على مستويين، شعبى وأكاديمى، فعلى المستوى الشعبى هناك مظاهر لها جذور دينية إسلامية ويمارسها الأقباط، مثل زيارة الموالد التى صارت شيئًا مشتركًا بين الطرفين، وتكشف الدراسات الأكاديمية أن المسلمين والمسيحيين العرب كانوا يتبادلون الحوار الدينى فى الأسواق والمقاهى فى العصر العباسى، حتى أن محاضر هذه الجلسات كانت تصل لقصر الخليفة المأمون مثلًا، وهو أمر لم يكن يحدث فى الغرب وقتها، وفى القرن الثامن ظهرت قضية حرية الإنسان أو الجبر والاختيار، وطال النقاش اللاهوتيين المسيحيين كما الفلاسفة المسلمين، فمثلا اللاهوتى المسيحى يوحنا الدمشقى كان يؤمن بحرية الإنسان، فى الوقت الذى ظهر فيه المعتزلة والأشاعرة، وخرج هذا المعترك للعالم عشرات اللاهوتيين المسيحيين بسبب الحوار المشترك بين الدينيين.
فى رأيك كيف تشكل وعى اللاهوتيين العرب؟
- أهم اللاهوتيين العرب هم الرعيل الأول الذى عرف الإسلام عن قرب، لأنهم عاشوا مع المسلمين الأوائل فى عصر ما بعد الخلفاء الراشدين، أى فى الدولتين الأموية والعباسية، من بينهم يوحنا الدمشقى الذى صاغ كتابات تركت أثرًا فى الأدبيات المسيحية، وكان آخر من كتب باللغة اليونانية، ثم بعده مباشرة يأتى جيل ثانٍ من اللاهوتيين يمثله ثيؤدوروس أبو قرة الذى كتب باللغة العربية، وحبيب بن حذيفة، وعمار البصرى وغيرهم، وهم من شكلوا طريقة تفكير المسيحيين العرب اللاحقين.
ورقة بن نوفل كان أسقفًا على مكة، أين ذهب المسيحيون العرب بعد ظهور الإسلام فى شبه الجزيرة العربية؟
- كان المسيحيون العرب موجودين فى شبه الجزيرة العربية فى بعض الجيوب الصحراوية، الجزيرة العربية تقع فى أقصى حدود الدولة الرومانية فى منطقة حدودية يتنازع عليها الفرس والروم، فكانت المنطقة تشهد ولاءات متغيرة بين الفرس والروم، المسيحيون كانوا موجودين فى مكة وفى البحرين وفى نجران، وهناك قصة أصحاب الأخدود الذين قتلهم ملك يهودى يسمى أبونواس، وهى قصة مذكورة فى القرآن، وعدد كبير من المؤلفين المسلمين هم الذين قالوا إنه اضطهاد يهودى مسيحى وقع فى القرن السادس، وبعض النصوص التاريخية تشير إلى منطقة فى مكة تسمى مقابر النصارى، المسيحيون العرب عبروا من مكة فى طرق التجارة، وحين عاد الرسول محمد وفتح مكة قام بعملية تسمى تطهير الكعبة تخلص فيها من الأصنام الوثنية ما عدا تمثالا واحد كان للعذراء مريم والمسيح، مما يشير إلى وجود مسيحيين فى مكة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة