التحولات فى السوق الصحفية عنيفة، لم تعد تشمل هذه التحولات المؤسسات الصحفية الفقيرة، لكنها انتقلت أيضا لمؤسسات «الشمال»، تلك المؤسسات الصحفية العربية التى استقرت لسنوات طويلة فى عواصم أوروبية، ومولتها عواصم عربية مهمة باستثمارات هائلة وميزانيات مفتوحة، التغيير العاصف والتحولات فى سوق الصحافة المطبوعة والصحافة الإلكترونية، لم تترك أخضر أو يابسا فى سوق الصحافة إلا ونالت منه واعتصرت قلبه النابض بالحيوية تحت قهر المال والإعلانات و«التكلفة والعائد».
من كان يصدق ما يجرى فى صحيفة الحياة اللندنية التى تعيش برعاية كاملة من استثمارات سعودية قادرة وراسخة وواثقة الخطى يمكن أن تفكر بمنطق «المكسب والخسارة» وأن تطالها أعاصير «خفض النفقات»، والبحث عن طرق جديدة للربح، صحيفة الحياة «وهى بالمناسبة صحيفتى المفضلة، والأقرب إلى قلبى، والمدرسة التى أؤمن بقدراتها الفائقة ومواهب طاقمها التحريرى منذ نعومة أظافرى فى عالم الصحافة»، هذه الصحيفة العملاقة والمؤسسة الأكثر تأثيرا، تدخل الآن مرحلة إعادة الحسابات، فلم يعد يوجد فى سوق الإعلام من يمكنه أن ينفق بلا حساب، أو يحلق بجناحات الاستثمارات الواسعة دون أن يضمن لاستثماراته أن تعود «يوما ما»، أو أن يحقق التوازن المالى الذى يضمن للصحف أن تنفق على نفسها دون انتظار للتمويل والعطايا.
لم يكن يخطر على بال هؤلاء الذين بدأوا الإصدار «اللندنى» للحياة، ونعموا بسخاء هائل من ملاك الصحيفة، أنهم سيقرأون على صفحات جريدتهم الرائدة رسالة من المدير العام للدار «رجا راسى» تتحدث عن «مؤسسة تتكبد خسائر سنة بعد سنة وضرورة ابتكار طرق جديدة للعمل للحد من الخسائر»!
لماذا كتب المدير العام لصحيفة الحياة «اللندنية» ذات الملكية والاستثمارات السعودية «الرسمية أو شبه الرسمية» رسالته تلك التى تتحدث عن خسائر كبيرة فى الصحيفة، وجرى نقل مكتب بيروت إلى مقر مركزى فى دبى، وسبق ذلك نقل عمليات الصحيفة من مكاتب باريس ولندن والسعودية ونيويورك إلى دبى، ثم سيجرى لاحقا أيضا نقل مكاتب الصحيفة فى مصر والعراق إلى دبى، ليتم دمج جميع عمليات الصحيفة فى العالم العربى إلى مقر مركزى فى دبى لضغط التكلفة والنفقات بعمليات دمج واسعة فى الإدارات، وتوحيد هياكل العمل التحريرى، وخفض الإيجارات وترشيد الإنفاق العام لتتمكن الصحيفة «الأكبر والأغنى فى العالم العربى» من تغطية نفقاتها ذاتيا وتحقيق أرباح أو على الأقل الوصول إلى توازن مالى يضمن لها البقاء ذاتيا.
ما يحدث فى الحياة، شهدته صحف لبنانية من قبل، وعانت منه صحف أخرى فى العالم العربى بدأت إجراءات خفض النفقات، وبعضها وصل إلى حد الإغلاق الكامل، لكن «الحياة» تسعى لإنقاذ نفسها بتوحيد ودمج الإدارات والعمل التحريرى، والرسالة التى نفهمها من كل ما يجرى أنه لم تعد هناك قوى فى العالم العربى، أو مؤسسة فى العالم مستعدة لأن تنفق على الصحافة بلا عائد، أو تنفق على الإعلام بلا ربح، أو دون الوصول إلى مرحلة من الاستقرار المالى يتوقف فيها الممول عن دفع النفقات. إن الممول، أى ممول، حتى لو كان يملك حقولا من النفط، لن يبدد أمواله سدى، ولن يصدق أن الصحافة والإعلام والوسائل التقليدية فى الميديا قادرة على أن تحقق أهدافه العليا فى ظروف التطور التكنولوجى المخيف فى العالم.
ما يجرى فى الحياة رسالة مهمة لهؤلاء الذين يديرون مؤسسات الميديا فى العالم العربى اليوم، أننا لن نتمكن من الاستمرار أيا كانت التمويلات التى تتدفق على مؤسساتنا، وبدون حسابات دقيقة للربح والخسارة، فإن المصير هو الإغلاق، أو تصفية المقرات ووقف البذخ.
كل من التقطوا هذا الدرس مبكرا، سينجون من طوفان «خفض النفقات»، وكل من لم يلتقط هذا الدرس، ستدهسه الخسائر، ولن تشفع له أوهام التأثير السياسى.
درس مهم للجميع.
وأقول لزملائى وأساتذتى فى الحياة اللندنية، التى تصبح اليوم «الحياة الصادرة من دبى»: إننى على ثقة بأنكم ستقدمون نموذجا قويا يقفز على كل هذه التفاصيل، وتحافظون على هذا الاسم الغالى فى عالم الصحافة والتنوير، فى صحيفتكم المرموقة والحبيبة «الحياة».
مصر من وراء القصد
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة