بين أشجار غابات تحسبها إذا نظرت إليها من بعيد حدائق ذات بهجة غنَّاء يشفى ظلالها الوافر وهواها العليل آلام مَن تحتها وأوجاعه، فإذا ما اقتربت منها رأيت ما لا يسر العين، ويوجع القلب، ويزكم الأنف، وسمعت من آلام القوم وأوجاعهم ما يصم الأذن ويفتت الكبد، وعايشت فى السويعات التى تقضيها معهم حالًا تعيسة بئيسة, بل لعلها الأكثر تعاسة وبؤسًا فى العالم، وأدركت أن هؤلاء الروهينجا الذين يصل عددهم إلى مليون ومائتى ألف هم البؤساء حقيقة وليس ما تناولته بعض الأعمال الأدبية التى رصدت حال البؤساء فى عصر من العصور، بل إن ما استطاعت رصده بعض كاميرات الإعلام لا يمثل عُشر معشار ما هم فيه على الحقيقة فى هذا المكان الذى نزحوا إليه فارين بأنفسهم ومن بقى من أهلهم وذويهم من قتل بلا رحمة وتشريد بلا شفقة واضطهاد بلا مسوغ، فى أكثر صور الطائفية والعنصرية والتطهير العِرقى قبحًا وعدوانًا!
لا يمكن للكلمات أن تعبر عن مأساة هؤلاء القوم وتصف بؤس حالهم، أجسام هزيلة وأبصار زائغة مترقبة وأقدام حافية وأجساد شبه عارية وأخرى عارية تمامًا، لا يعرف القوم أيهما يسبق إليهم أهو الموت أم أهل الخير الذين يحملون بعض ما يسد الرمق من طعام، وما يضمد الجروح العضوية من دواء، وما يقى تقلبات الطقس من خيام تشترط الدولة المضيفة على من يتبرعون بها أن تكون ضعيفة لا تقوى على مجابهة الظواهر الجوية طويلًا حتى لا يركن إليها هؤلاء البؤساء ويعتبرونها مأوى دائمًا لهم!
فإذا ما تجولت داخل هذه المخيمات الهشة التى لا تكاد تقى من حر الصيف أو برد الشتاء، رأيت العجب العجاب وكيف أن هؤلاء البشر بقوا إلى لحظة رؤيتك لهم على قيد الحياة من دون توافر أدنى مقوماتها، فمتوسط الأسرة خمسة أفراد مُنحوا مساحة من الأرض تقترب من ثلاثة أمتار، وقطعة قماش بالية، وأنصاف عيدان خشبية شُد عليها الشDء الذى يسمى خيمة بحيث تجعلها مرتفعة عن الأرض نحو متر وربما أقل من ذلك، حتى إنهم مع قاماتهم القصيرة يحتاجون إلى الانحناء لدخولها، ووجدت الأرض غير الممهدة سريرهم، ولا يمكن أن تتخيل وجود شىء آخر، فأكثر من ذلك فى هذا المكان يعد رفاهية بالمعنى الحقيقى لهذه الكلمة، ناهيك بشبه انعدام المياه والصرف الصحى والرعاية الطبية، وغيرها من الأشياء التى نعدها من الضرورات التى تستحيل الحياة من دونها. ويمكن تقريب حال هؤلاء الروهينجا الذين استطاعوا الفرار بأنفسهم وبمن بقى من أهلهم وذويهم ولاذوا بمدينة كوكس بازار، إذا قلنا إن سكان العشوائيات وما يسمى «عشش الصفيح» فى أسوأ مكان فى العالم، يعدون فى مستوى «خمس نجوم» بالنسبة لهؤلاء البؤساء!
هذا هو جزء بسيط من وصف حال هؤلاء الروهينجا البؤساء الذين اضطُهدوا وعُذبوا وقُتلوا وحُرقوا وهُجِّروا من وطنهم وشُردوا فى الأرض لا من جريرة سوى أنهم مسلمون، لكنهم فروا من رمضاء جيش تطهير عرقى فى بلدهم ميانمار إلى حال لا تقل قسوة وضراوة وبؤسًا فى مخيمات النزوح بمدينة كوكس بازار فى دولة بنجلاديش على الحدود مع ميانمار!
ما رأيناه فيما يسمى معسكرات حُشر فيها هؤلاء البؤساء خلال زيارتنا التى كلفنا بها فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر، لا يمكن لبليغ أن يصور بعضه ولو بشكل تقريبى فى كلمات توقف الناس فى أنحاء العالم على جزء من معاناة هؤلاء المعذبين فى الأرض ومأساتهم الإنسانية، وتُشعر المؤسسات الدولية والهيئات الأممية بضرورة تحمل مسؤولياتها تجاه ما يحدث لهم من جرائم تطهير عِرقى وقتل على الهوية، خاصة تلك الهيئات التى لا تنفك تتشدق بحقوق الإنسان ومكافحة العنصرية، وتنادى بالحرية الشخصية وسطوة القانون.
لقد تفننت سلطات ميانمار فى تعذيب هؤلاء القوم والتنكيل بهم، وجردتهم من أوراقهم الثبوتية وحقوقهم الملكية، ورفضت نسبتهم إلى وطنهم وكأن هؤلاء القوم الذين يزيد عددهم على المليون نسمة زرع شيطانى لا أصل له، بل جردتهم من أبسط حقوق الإنسان وهو الحق فى الحياة، فأعمل فيهم الجيش بطشه وجبروته فقتل منهم من قتل حرقًا أو ذبحًا أو رميًا بالرصاص، وفر منهم من استطاع الفرار محملًا بجروح وآلام داخلية وخارجية أو بعض رصاصات ما زالت فى الأجساد، قاطعين مسافات يعجز عن قطعها الأصحاء، سالكين دروبًا وطرقًا وعرة يُخشى معها على الحياة، ظانين أنهم سيجدون الملاذ الآمن والمأوى الملائم والمطعم المناسب الذى يبقيهم أحياء فى جارتهم الحدودية بنجلاديش التى يرى أهل ميانمار أنهم ينتمون إليها فى الأصل، فإذا بالجارة تضيق بهم ذرعًا، وتعتبرهم مقيمين غير مرغوب فيهم، وتشترط على من يريد مساعدتهم تقديم مساعدات مؤقتة كبعض المواد الغذائية وبعض الدواء، فإن كانت للإيواء فلتكن من نوع هش لا يمكنه الصمود طويلًا أمام تقلبات الطقس حتى لا يركن هؤلاء البؤساء للإقامة على أرضهم، ولذا يكره البنجاليون إطلاق لفظ اللاجئين عليهم ويفضلون تسميتهم بالمهجرين!
وبدلًا من تحرك الضمير الإنسانى وأحرار العالم لمساعدة هؤلاء المهجرين بما يكفى بقاءهم على قيد الحياة على أقل تقدير، روعيت اعتبارات هى أبعد ما تكون عن الإنسانية والعدل والإنصاف ونصرة الملهوف ونجدة المستغيث بغض النظر عن دينه أو عِرقه، وخيف من غضب من تكمن مصالحه فى فناء هؤلاء جميعًا وحذفهم من سجلات الحياة. وبدلًا من تحرك ساسة الدول الكبرى والمؤسسات الدولية والهيئات الأممية ومنظمات حقوق الإنسان التى صدعتنا بالحديث عن الحرية والعدالة وحقوق الإنسان ومكافحة التمييز العنصرى والتطهير العِرقى والدينى، غض بعضهم الطرف عن القضية برمتها، وانشغل بما هو أهم بالنسبة له كاستكشاف الفضاء وإنتاج سيارة بلا سائق وطائرة تعمل بالطاقة الشمسية، واختلف بعضهم الآخر حول المسؤول عن وصول الأمور إلى ما صارت إليه بين الروهينجا والجيش فى ميانمار، فبينما يرى بعضهم أن الروهينجا هم من نغص على الجيش مما اضطره إلى استعمال القوة معهم دفاعًا عن النفس، يرى آخرون أن الجيش قام بعمليات تطهير عِرقى ودينى بحقهم ترقى إلى جرائم حرب بل هى كذلك بالفعل. وبين هؤلاء وأولئك ينتظر المسلمون الروهينجا مصيرهم المأساوى المحتوم إما الموت جوعًا وعطشًا أو مداهمة الأمراض الفتاكة التى ليست ببعيدة عنهم، فى ظل أوضاعهم المزرية التى رأيناها هناك فى كوكس بازار.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة