لست من هواة البكاء على العمر المسكوب، لكنى أتذكر تلك الأيام فحسب، أتذكرها فتشع البهجة فى قلبى وتسعى رائحتها فى دمى، يأتى الشتاء محملا بالصقيع، محملا بالرياح، محملا بالأتربة، محملا بالليالى الطويلة والليل العميق، ومحمّلا أيضا بالونس، بالرغبة فى الصحبة الحلوة والدفء المنشود.
يأتى الشتاء محملا بذكريات لم يمحها الزمن ولم تحل محلها أخرى، ذكريات الاستيقاظ صباحا للذهاب إلى المدرسة واختبار درجة الحرارة ببخار من النفس الساخن.
ذكريات مفاوضة الأم على خمس دقائق إضافية تقضيها تحت البطانية، ذكريات أجمل إغفاءة بعد الاستيقاظ فى الحمام، ذكريات المريلة البنى، والحقيبة التى تختلط فيها رائحة أقلام الرصاص والأستيكة المعطرة والسندوتشات الطازجة والكتب والكراريس.
تداهمك الروائح فتعرف أنك فى فصل الشتاء، فصل تجتمع فيه العائلة رغبة على ما لذ وطاب من الحياة، تجمعكم لبشة القصب، وتجمعكم شنطة البرتقال واليوسفى، وتجمعكم الرغبة فى الانتشاء باللعب مقاومة للبرد، وتجمعكم نار مشتعلة من فوهة وابور الجاز الذى يصبح شغلكم الشاغل قبل الاجتماع، وقبلتكم الموحدة بعده.
تجمعكم أكلات الشتاء الشهية، وتخترق روحكم رائحة المحشى والكسكسى والعدس بالبصل، وتجمعكم لهلبة «السخينة» وحنان «سد الحنك» وشطشطة الفول الحراتى المطبوخ فى دماسة الفول مع الفلفل والكمون، وتجمعكم نار «الحلبسة» الموقدة، والتى تتسابقون فيما بينكم على من يضع فيها الشطة أكثر.
وعشنا وتذكرنا، وعشنا وأصبحنا نترحم على أيام كنا نسخر من آبائنا وهم يتذكرون مثلها، عشنا حتى رأينا أجيال «الهوت شوكليت» وائتلاف مدمنى «السينابون» عشنا حتى رأينا جزءا من حياتنا يتسرب من الواقع ولا يتسرب من الذاكرة، نسأل أنفسنا: هل نشفق على أبنائنا؟ أم ترى هم الذين يشفقون علينا؟ «الزمان اختلف» ووقعنا فى الفخ، ولم تشفع لنا سطوة الأبوة فى إعادة عقارب الرائحة إلى ما كانت عليه، لكن تلك الرائحة مازالت فى دخلنا، أو بالأصح: مازلنا فى داخلها، تعمل فينا ما يفعله حضن الأم وشفة الحبيبة، تفعل فينا ما تفعله نسمة الصباح ونسيم المساء، تفعل فينا ما يفعله بحر إسكندرية وأغنية رق الحبيب.