يبدو أن النظام الحاكم فى كوريا الشمالية، يتحرك على عدة مسارات متوازية، من أجل تحقيق الانفتاح على العالم، وهو ما يمكن لأى متابع أن يتلمسه بوضوح منذ بداية الإنفراجة التى تشهدها أزمة بيونج يانج، حيث سعى إلى التقارب فى البداية مع كوريا الجنوبية، ليقدم رسالة إلى الولايات المتحدة مفادها أن الدولة المارقة تتجه نحو تغيير نهجها العدائى، الذى طالما اتسمت به لسنوات طويلة، وهو ما فتح الباب على مصراعيه أمام المفاوضات مع واشنطن، والتى توجت فى النهاية بالقمة التى عقدها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب مع نظيره الكورى الشمالى كيم جونج أون فى سنغافورة فى سبتمبر الماضى.
وعلى الرغم من التقلبات التى شهدتها المفاوضات بين واشنطن وبيونج يانج على خلفية الرفض الأمريكى لرفع العقوبات المفروضة على نظام كوريا الشمالية تارة، وكذلك الاتهامات الأمريكية بعدم التزام النظام الحاكم بنزع السلاح النووى تارة أخرى، بالإضافة إلى إلغاء زيارة كانت مقررة لوزير الخارجية الأمريكى مايك بومبيو إلى بيونج يانج فى أغسطس الماضى، كانت كوريا الجنوبية بمثابة القبلة التى اتخذها كيم لإقناع الإدارة الأمريكية بالمضى قدما فى المفاوضات تمهيدا لعقد قمة ثانية، حيث جاءت زيارة رئيس كوريا الجنوبية مون جاى إن لبيونج يانج فى سبتمبر، لتفتح الباب أمام تراجع الموقف الأمريكى، ليعود بومبيو من جديد لزيارة العاصمة الكورية الشمالية، والإعلان عن قمة جديد بين ترامب وكيم.
واشنطن وحدها لا تكفى.. بيونج يانج تتطلع للانفتاح على أوروبا
هنا يبدو واضحا أن الإدارة الحاكمة فى كوريا الشمالية اعتمدت منهجا واضحا فى التعامل مع الولايات المتحدة، استخدمت خلاله الوسيط الكورى الجنوبى، لتقريب وجهات النظر بينها وبين واشنطن، فى أوقات التقلبات التى تشهدها المراحل المختلفة للمفاوضات، على اعتبار أن تطور العلاقة مع واشنطن يبقى أولوية مهمة لبيونج يانج لإنهاء أزمتها التى دامت لعقود طويلة من الزمن، وبالتالى تدشين حقبة جديدة من العلاقات مع مختلف الأطراف، دون المساس بعلاقتها مع حلفائها الأصليين، وعلى رأسهم الصين وروسيا.
إلا أن الانفتاح على واشنطن لا يبدو كافيا لتحقيق تطلعات الزعيم الكورى الشمالى للانفتاح على العالم، وهو ما تحتاج إليه بيونج يانج للخروج من أزمتها الاقتصادية الراهنة، فى ظل توتر علاقات واشنطن بصورة كبيرة مع حلفائها فى أوروبا، على خلفية الإجراءات الجمركية التى اتخذتها إدارة ترامب تجاه التجارة القادمة من أوروبا، بالإضافة إلى القرارات الأمريكية أحادية الجانب، سواء فيما يتعلق بالانسحاب الأمريكى من الاتفاق النووى الإيرانى أو حتى التوجه نحو التقارب مع كوريا الشمالية، وهنا تظهر الحاجة إلى وسيط جديد يمكن من خلاله مغازلة الغرب الأوروبى.
بابا الفاتيكان.. كوريا الشمالية تلجأ لفرنسيس على غرار كوبا
ولعل النظام الحاكم فى كوريا الشمالية لم يجد أفضل من بابا الفاتيكان، لكى يكون بمثابة جسرا جديدا من التواصل بين الدولة المارقة وخصومها الأوروبيين، وهو الأمر الذى دفع زعيم كوريا الشمالية إلى دعوة البابا فرنسيس إلى زيارة بيونج يانج، وهو الأمر الذى يساهم فى تقديم رسالة جديدة لأوروبا تعكس الرغبة فى طى صفحة الماضى، والبدء فى مرحلة جديدة من العلاقات تقوم على التعاون الاقتصادى فى محاولة لانتشال بيونج يانج من الأوضاع الاقتصادية المتدهورة والتى تشهدها البلاد جراء الانغلاق الذى عانته لعقود بالإضافة إلى العقوبات الدولية المفروضة عليها.
البابا فرنسيس ورئيس كوبا راؤول كاسترو
ويعد اختيار الفاتيكان فى ذاته للقيام بدور الوسيط المحتمل، ليس بالأمر الجديد تماما من قبل ما يمكننا تسميتهم بـ"الدول المارقة"، فقد سبق للبابا فرنسيس القيام بأدوار سياسية، لعل أبرزها بين الولايات المتحدة وكوبا، وهو ما أسفر عن تحسن العلاقات بين البلدين بصورة كبيرة خلال حقبة الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما، بالإضافة كذلك إلى محاولات الفاتيكان للوساطة لإنهاء بعض الصراعات الداخلية فى بعض الدول، على رأسها الدور الذى تحاول القيام به لإنهاء الأزمة بين الحكومة والمعارضة فى فنزويلا.
معضلة ترامب.. هل يمكن لفرنسيس تحريك المياة الراكدة؟
وهنا تثور التساؤلات حول ما إذا كانت القيمة الدينية والرمزية لبابا الفاتيكان يمكنها أن تؤهله للقيام بدور لدعم النظام الحاكم فى كوريا الشمالية أمام دول أوروبا فى المرحلة المقبلة، أم أن القارة العجوز سوف تواصل موقفها تجاه بيونج يانج نكاية فى إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، فى ظل حاجته الملحة لتحقيق انتصار دبلوماسى يمكنه استخدامه لتخفيف حدة الضغوط التى يواجهها فى الداخل، خاصة مع اقتراب انتخابات التجديد النصفى للكونجرس والمقررة فى شهر نوفمبر المقبل.
قادة أوروبا يرفضون التحركات الأمريكية أحادية الجانب
يبدو أن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب يمثل المعضلة الوحيدة التى سيواجهها بابا الفاتيكان إذا ما قرر خوض المغامرة السياسية الجديدة، خاصة وأن سياسة التجاهل، والتى انتهجها ترامب إبان تقاربه مع نظام كوريا الشمالية، تمثل أحد أكبر النقاط الخلافية بين الولايات المتحدة وحلفائها فى أوروبا، على عكس الصفقة التى أبرمها الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما مع إيران، حيث حرص على أن تكون أى صفقة نووية مع طهران بالمشاركة مع الحلفاء الأوروبيين، وعلى رأسهم ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، بالإضافة إلى الحصول على دعم الاتحاد الأوروبى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة