على غير عادة الحوارات الصحفية التى يقرأها جمهور الأدب العالمى، مع كبار الكتاب المشهورين، أمثال هاروكى موراكامى، الذى يحظى بشعبية عالمية، أجرى محرر صحيفة "الجارديان" حوارا مختلفا مع صاحب "كافكا على الشاطئ"، لم يكن حوار بالمعنى الحرفى، بقدر ما كان محاولة لكتابة قصة أدبية عن لقاء تاريخى بالنسبة له، مع كاتب استطاع أن يحجز لنفسه مقعدا فى عالم الأدب العالمى.
قدم المحرر Oliver Burkeman حواره سادرا العديد من التفاصيل خلال اللقاء، والتى سبقت اللقاء ذاته بيوم، مانحا نفسه صفة الراوى العليم فى الروايات التى نقرأها ونتعرف من خلاله على جوانب عديدة حول شخصيات الرواية وعالمها السحرى الذى نظل بداخله لفترة من الزمن، كعالقين فى دوامته، لا نسعى للخروج منها، بقدر ما نستمتع بأحداث الحكاية.
ولهذا فإن ما سرده المحرر الصحفى خلال لقاءه مع هاروكى موراكامى، يستحق من القارئ أن يعيش أجواءه كما عاشها واستمتع بها، ولهذا نترك القارئ مع هذه التفاصيل، التى سوف يتعرف من خلالها على عالم الغرابة الذى يعيشه "موراكامى".. وإلى نص اللقاء:
فى اليوم السابق لمقابلتنا فى مانهاتن، أوقفت امرأة هاروكى موراكامى فى سنترال بارك، حيث أتى لركضه فى وقت متأخر من الصباح. قالت: "عفواً، ألست روائيا يابانيا مشهورا جداً؟". طريقة غريبة فى طرح السؤال، لكن "موراكامى" رد بأسلوبه المعتاد. "قلت" لا، حقا أنا مجرد كاتب. لكن من الجميل أن ألتقى بك! "ثم تصافحنا. عندما يوقفنى الناس هكذا، أشعر بغرابة كبيرة، لأننى مجرد رجل عادى. لا أفهم حقاً لماذا يريد الناس مقابلتى".
يعلق المحرر الصحفى على هذا الموقف ويقول: سيكون من الخطأ تفسير هذا التواضع، ومن الخطأ أيضًا اعتباره انزعاجًا حقيقيًا من الشهرة، بقدر ما يمكن القول، أن موراكامى البالغ من العمر 69 عامًا لا يستمتع ولا يكره شخصيته العالمية. وبدلاً من ذلك، فإن نظرته للحياة هى نظرة متفرج مشاكس قليلاً، فليس من قبيل الصدفة أن يكون من المعتاد أن بطل "موراكامى" فى أعماله الإبداعية مراقبا منفصلا: رجل هادئ، اجتماعيا، ومجهول فى أغلب الأحيان فى منتصف الثلاثينيات من عمره، يبدو أكثر إثارة للاهتمام من القلق عند مكالمة هاتفية لا يمكن تفسيرها، أو البحث عن قطة مفقودة، ويقوده إلى عالم متواضع شبيه بالحلم يسكنه كلاب متفجرة، ورجال يرتدون أزياء الأغنام، وفتيات مراهقات مبتهجات، وأشخاص بلا وجوه.
يشير المحرر إلى أن "موراكامى" قال ذات مرة لأحد المحاورين إنه يحب لعبة البيسبول "لأنها مملة"، وضيف: مع ذلك، لا ينبغى أن تتوقع من "موراكامى" أن يخبرك ما الذى يعنيه الخيال فى عمله. وهو يعمل انطلاقا من ثقته القوية فى اللاوعى الخاص به، ويفسر ذلك بأنه: إذا كانت الصورة تنبثق من ذلك البئر الداخلى المظلم، فإنه يجب أن يكون ذا معنى من حيث التعريف - ومهمته تسجيل ما ينشأ، بدلا من تحليله. يقول: هذه وظيفة لـ"الأشخاص الأذكياء.. والكتاب لا يجب أن يكونوا أذكياء".
فى روايته" كافكا على الشاطئ "عام 2002، على سبيل المثال، هناك مشهد تبدأ الأسماك فى السقوط، مثل البرد، من السماء. "يسألنى الناس، لماذا السمك؟ ولماذا يسقطون من السماء؟ لكن ليس لدى إجابة عنهم. أنا فقط حصلت على فكرة أن شيئا يجب أن يسقط من السماء. ثم تساءلت: ما الذى يجب أن يسقط من السماء؟ وقلت لنفسى: السمك! سيكون السمك جيدًا.
"كما تعلمون، إذا كان هذا هو ما يخطر ببالى، فربما يكون هناك شىء صائب فى هذا الشأن - وهو شىء من العقل الباطن العميق الذى يرن مع القارئ.
يضيف موراكامى ويقول: "لدى مكان لقاء سرى تحت الأرض، وهو مكان سرى فى اللاوعى. وفى هذا المكان، ربما يكون صحيحًا تمامًا أن الأسماك يجب أن تسقط من السماء. إنه مكان اللقاء المهم، وليس تحليل للرمزية أو أى شىء من هذا القبيل. سوف أترك ذلك للمثقفين".
ويرى المحرر أن اللحظات الرئيسية فى ظهور "موراكامى" ككاتب تشترك فى هذا الإحساس بأنه نشأ من مكان ما خارج نطاق سيطرته الواعية. لقد ولد "موراكامى" عام 1949 فى كيوتو، أثناء الاحتلال الأمريكى لليابان فى فترة ما بعد الحرب، وخيب آمال والديه بسبب رفضه للعمل فى مجال الشركات لصالح افتتاح نادى موسيقى الجاز فى طوكيو، بيتر كات، الذى يحمل اسم حيوانه الأليف. بعد بضع سنوات، كان فى المدرجات فى ملعب البيسبول يراقب الكرة تبحر قبالة لاعب أمريكى يدعى ديف هيلتون، عندما ظهر له فجأة أنه يستطيع كتابة رواية.
ويشير المحرر إلى أن هاروكى يرفض فكرة أن حكاياته عن سقوط الأسماك والمرأة المشبعة بطريقة خارقة للطبيعة ليست واقعية، فيقول: "إنها واقعيتى". "أحب غابرييل غارسيا ماركيز كثيراً، لكننى لا أعتقد أنه فكر بما كتبه كواقعية سحرية.. أسلوبى يشبه نظارتى.. من خلال تلك العدسات، يكون العالم منطقيًا بالنسبة لى".
طقس الكتابة لدى هاروكى موراكامى
ويشير المحرر إلى أن هاروكى موراكامى قام بتحسين روتين الكتابة اليومى لديه، والذى يبدأ من الساعة الرابعة صباحًا ويستمر لمدة خمس أو ست ساعات، مما ينتج 10 صفحات فى اليوم، قبل أن يقوم بالمشى لستة أميال، أو ربما يتجه للسباحة.
يقول موراكامى: "أعتقد أنى يجب أن أكون قويًا جسديًا من أجل كتابة أشياء قوية" حيث يرى أنه ما يشبهه بـ"خط أنابيب" بينه وبين القارئ لنقل أفكاره يجب أن يظل فى حالة عمل جيدة، إلا أنه يتساءل: "أنا حقاً لا أعرف لماذا يحب الناس قراءة كتبى الطويلة.. لكن هذا بدون أى أثر للغطرسة".
هاروكى موراكامى وأعماله المترجمة
يستمتع بقراءة أعماله الخاصة المترجمة إلى اللغة الإنجليزية، لأنه يشبه قراءة رواية جديدة. يقول: "يستغرق الأمر سنة أو سنتين لترجمة هذه الكتب الكبيرة"، إلا أنه يعلق على قراءته لأعماله المترجمة ويقول، حينما يتصل بى المترجم ويقول: "مرحبًا، هاروكى، كيف أعجبك ترجمتنى؟" فأجيب: "هذه قصة رائعة! أنا أحب ذلك كثيرا!'".
آراء هاروكى موراكامى فى السياسية
فقط عندما تتحول محادثتنا إلى السياسة الأمريكية، كما يجب حتمًا، يتبنى شيئًا أقرب إلى مهمة تأليف. وعندما سئل عن أفكاره حول الأزمة التى يعيشها هذا البلد الذى يعيش ثقافته فى مثل هذه المحبة، فإنه يفكر، فى صمت، لما يقرب من دقيقة كاملة. ثم يقول: "عندما كنت فى سن المراهقة، فى الستينات، كان ذلك هو عصر المثالية. كنا نعتقد أن العالم سوف يتحسن إذا حاولنا. لا يصدق الناس اليوم ذلك، وأعتقد أن هذا أمر محزن للغاية. يقول الناس أن كتبى غريبة، ولكن وراء الغرابة، يجب أن يكون هناك عالم أفضل. الأمر فقط أننا يجب أن نختبر الغرابة قبل أن نصل إلى عالم أفضل. هذا هو الهيكل الأساسى لقصصى: يجب أن تمر بالظلام، عبر الأرض، قبل أن تصل إلى الضوء".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة