زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسى إلى روسيا تأتى امتدادا لسياسة تنويع التحالفات التى كان بمثابة الشعار الذى تبنته مصر منذ بداية حقبة 30 يونيو، فكان التوجه نحو الشرق، وخاصة روسيا والصين، هو النهج الدبلوماسى للقاهرة، دون التخلى عن علاقتها مع الحلفاء الأخرين، ليصبح بمثابة العلامة الأبرز لثورة 30 يونيو فى المجال الدبلوماسى، خاصة وأن مصر دارت فى الفلك الأمريكى لعقود طويلة، ربما بسبب هيمنة النفوذ الأمريكى على المشهد العالمى الأحادى الجانب، بالإضافة إلى تضاؤل الدور الذى تلعبه كافة القوى الدولية والإقليمية الأخرى مقارنة بالدور الأمريكى فى كافة القضايا المؤثرة والتى ترتبط مباشرة بالأمن القومى المصرى، وفى القلب منها القضية الفلسطينية.
يبدو أن ثورة 30 يونيو كانت كاشفة ليس فقط لتوجهات الداخل فى الشارع المصرى، بينما كانت تداعياتها الدولية سببا فى تغيير وجهة الدبلوماسية المصرية، وهو ما يرجع فى جزء منه إلى الموقف المشبوه الذى تبنته الولايات المتحدة وبعض حلفائها فى أوروبا تجاه إرادة المصريين الذين احتشدوا فى الميادين للمطالبة بإنهاء حقبة، لم يتجاوز عمرها العام الواحد بينما مرت وكأنها دهر، حكم خلالها البلاد حفنة من الإرهابيين، وبالتالى كانت هناك حاجة ملحة إلى إيجاد بدائل أخرى يمكن الاعتماد عليهم دون السماح بأى نوع من التدخل الأجنبى فى الشئون الداخلية المصرية.
ثورة 30 يونيو
قراءة متأنية للمستقبل.. 30 يونيو أنهت أحادية المشهد فى الشرق الأوسط
إلا أن التوجه المصرى الجديد لم يأتى فقط ردا على مواقف القوى الدولية من الأحداث التى شهدتها مصر فى 2013، وأنما تمثل كذلك انعكاسا صريحا لقراءة متأنية لمستقبل وخريطة القوى الدولية سواء فى منطقة الشرق الأوسط أو فى مناطق أخرى من العالم، خاصة وأن بقاء الهيمنة الأمريكية كان مرتبط بنجاح مخطط الربيع العربى، والذى قام فى الأساس على رؤية الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما بتمكين تيارات الإسلام السياسى مقابل تنفيذ بنود الأجندة الأمريكية فى المنطقة، بحيث تتحول تلك التيارات من كيانات مناوئة للولايات المتحدة إلى أذرع لها يمكن استخدامها لتحقيق الأهداف والرؤى التى تتبناها الإدارة.
تمكين الإرهاب كان رهان أوباما وإدارته للحفاظ على هيمنة أمريكا بالشرق الأوسط
ثورة 30 يونيو نجحت، واستطاعت بفضل مساندة الجيش المصرى، فى تحقيق إرادة المصريين فى إزاحة الإرهاب عن مقاعد السلطة، بل وامتد نجاحها إلى تقويض دعائم الأنظمة الأخرى التى حاولت استثمار الفوضى لتجد لها طريقا فى الحكم، كما هو الحال فى تونس، حيث لم يجد نظام "الغنوشى" مفرا من الاستقالة حتى يكون خروجه أكثر شرفا من خروج أقرانه فى مصر عن السلطة، وهو ما يمثل انتكاسة كبيرة للجهود التى تبناها أوباما منذ بداية حقبته.
عودة روسيا.. كيف قرأ السيسى تغير المشهد الإقليمى بعد الثورة؟
ربما كان سقوط الإخوان فى مصر، وتنحيهم فى تونس بمثابة نقطة الانطلاق لانهيار الهيمنة الأمريكية فى الشرق الأوسط، لتعود روسيا من جديد بعد عقود، ليس فقط لأداء دور سياسى خطابى لرفض النهج الأحادى الأمريكى فى تشكيل مستقبل المنطقة، وإنما لاستعراض قوتها العسكرية، لتقهقر أمامها القوة الأمريكية، وتعلن انتهاء حقبة داعش فى سوريا، لتفرض موسكو قبضتها على مقاليد الأمور فى سوريا باعتبارها القوى الفاعلة فى الأزمة التى استمرت لسنوات دون أى دور واضح للغرب الأمريكى أو الأوروبى، والذى سعى بدوره لتنفيذ أجندته السياسية على حساب دماء السوريين وسيطرة الإرهابيين على مساحات شاسعة من البلاد.
السيسى قرأ المشهد مبكرا بالتقارب مع موسكو منذ قبل وصوله للرئاسة
وهنا تكمن عبقرية الرؤية المصرية، التى تمكنت من قراءة التغيير الكبير فى المشهد الإقليمى، بفضل 30 يونيو، فلم يكن حرص الرئيس السيسى على التقارب مع روسيا مقترنا بالوصول إلى الرئاسة، بينما استبق ذلك بزيارته إلى موسكو إبان وجوده فى منصب وزير الدفاع فى أعقاب الثورة المصرية، حيث التقى حينها بالرئيس الروسى فلاديمير بوتين ليعلن ميلاد التحالف المصرى الروسى الجديد، ولكن دون الإخلال بالعلاقات المصرية مع القوى الدولية الأخرى، لتتحول الدبلوماسية المصرية نحو نهج أكثر مرونة يسمح باستقلالية القرار المصرى دون تبعية، وفى الوقت نفسه يفتح الباب أمام استعادة الدور المصرى فى المنطقة.
الانفتاح على موسكو.. حلفاء أمريكا يستلهمون النهج المصرى الجديد
لعل أكثر ما يلفت الانتباه، فى النهج المصرى الجديد، أنه كان ملهما إلى حد كبير للعديد من القوى الدولية الأخرى، وهو الأمر الذى يبدو واضحا فى توجه العديد من حلفاء الولايات المتحدة إلى التقارب مع روسيا مؤخرا رغم الخلافات الكبيرة فيما بينهم، وذلك على خلفية التوتر فى العلاقة مع الولايات المتحدة، جراء الانقلاب الأمريكى عليهم فيما يتعلق بالقضايا التجارية، بعض قرار إدارة ترامب بفرض تعريفات جمركية على الواردات القادمة منهم، أو على خلفية الرغبة المستبدة لدى الرئيس الأمريكى فى تجاهل الحلفاء، فى العديد من القضايا الدولية، وعلى رأسها الانسحاب الأحادى الجانب من الاتفاق النووى الإيرانى.
التوجه الأوروبى نحو روسيا ربما لمسته الولايات المتحدة، خاصة بعد التصريحات المتواترة للرئيس ترامب، لانتقاد التعاون الاقتصادى بين ألمانيا وروسيا خاصة فى مجال الطاقة، محذرا من انزلاق برلين نحو التبعية لروسيا، فى ضوء اعتمادها الكلى على مصادر الطاقة الروسية، وهى التصريحات التى تمثل انعكاسا للقلق الأمريكى من توجه الحلفاء نحو التعاون مع روسيا على حساب تبعيتهم للإرادة الأمريكية، ويعكس كذلك إدراك الإدارة الحاكمة فى واشنطن انتهاء عصر الأحادية فى ظل المزاحمة الروسية للنفوذ الأمريكى فى العديد من مناطق العالم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة