قال الرئيس الفرنسى شارل ديجول للمشير عبدالحكيم عامر، القائد العام للقوات المسلحة المصرية، إنه زار مصر أثناء الحرب العالمية الثانية مرات حينما كان قائدا لـ«حركة فرنسا الحرة»، وكل مرة كانت تستمر شهورا، وفقا لمحمد حسنين هيكل فى كتابه «الانفجار»، وأكد ديجول لعامر، أنه قابل الملك فاروق وبعض الباشوات، واقتنع نتيجة مقابلاته معهم، بأن مصر مقبلة على ثورة بعد انتهاء الحرب، وحسب هيكل فإن الزعيم الفرنسى كانت لديه بعد ذلك أسئلة عن الأوضاع الداخلية فى مصر وما فعلته الثورة لتحسين أحوال الفلاحين «قالها ديجول بالاسم العربى»، وعقب بأنه حفظ العنوان وعرف الكثير عن أحوال الفلاحين من مشاهداته أثناء زياراته لمصر، ومن قراءته لكتاب «الفلاحين» الذى كتبه الأب «عيروط»، راهب يسوعى مشهور عاش فى مصر ودرس أحوال الفلاحين دراسة متعمقة.
كان عامر فى زيارة لفرنسا بدأت يوم 15 أكتوبر1965، ووفقا لهيكل: «كان ممثلا للرئيس جمال عبدالناصر وبدعوة خاصة من ديجول»، وكان لقاؤهما يوم 18 أكتوبر «مثل هذا اليوم»، حسبما يؤكد الدكتور ثروت عكاشة فى الجزء الأول من مذكراته، وكان عكاشة ضمن الوفد المرافق، ويكشف فى مذكراته، أن عامر دعاه للقائه بعد عودة العلاقات الدبلوماسية بين القاهرة وباريس فى سبتمبر 1965، وكان وقتها يعمل رئيسا للبنك الأهلى المصرى، وأبلغه بأنه تقرر سفره إلى باريس فى زيارة رسمية، واختاره ضمن أعضاء الوفد المرافق له، ثم طلب منه سرعة الانتقال إلى باريس للتمهيد للزيارة على الصعيد الشخصى مع معارفه، ثم العودة قبل يوم 15 أكتوبر لينضم إلى الوفد المسافر، وعمل عكاشة مستشارا عسكريا فى فرنسا عام 1954، قبل أن يصبح سفيرا فى روما ثم وزيرا للثقافة عام 1958.
سافر عكاشة يوم 5 أكتوبر 1965 لحضور دورة المجلس التنفيذى لليونسكو، وأجرى اتصالات واسعة بفعاليات فرنسية مؤثرة سياسيا وفكريا وثقافيا، ثم عاد للقاهرة يوم 14 أكتوبر، ومن المطار توجه للقاء عامر، وطمأنه بأن الظروف مهيأة لنجاح الزيارة، وقدم له معلومات حول الطبقة السياسية الفرنسية والتيارات السياسية والثقافية فى فرنسا، وكيفية التعامل مع قضية تسليح فرنسا لإسرائيل، والسياسة الخارجية الفرنسية، وسياسة ديجول فى الشرق الأوسط .
يؤكد عكاشة، أنه أشار على عامر بأن يتخلى فى تصرفاته عن الأساليب النمطية، ويشيع الحرارة فى أحاديثه، وأكد له: «إسرائيل غير مستريحة للزيارة لا من حيث ما ستسفر عنه من نتائج سريعة ومباشرة، ولكن من حيث ما ستسفر عنه مستقبلا».. ويكشف، أنه بسط لعامر رؤيته الخاصة بتحديد هدف الزيارة فى العمل على توطيد الصداقة بين رأسى الدولتين، ومحاولة اكتساب صداقات شخصية مع أكبر عدد من المسؤولين الفرنسيين، وهو ما ينبغى معه تجنب التقدم بأى مطالب من أى نوع كان، لأن مثل هذه المسالك سيحملهم على المزيد من الاحترام والتقدير، لاسيما أن هذه أول زيارة لفرنسا».
هكذا كان الإعداد للزيارة ممتازا، ووفقا لعكاشة: «فى يوم 15 أكتوبر استقبله فى المطار رئيس الوزارء بومبيدو الذى أعلن فى خطبة الترحيب: «من الآن لم تعد ثمة خلافات جوهرية بين فرنسا ومصر»، وذلك فى إشارة إلى العلاقات المقطوعة بين البلدين نتيجة العدوان الثلاثى على مصر عام 1956، وشاركت فيه فرنسا إلى جانب بريطانيا وإسرائيل.
«مضى برنامج الزيارة كما كان معدا فى يسر وود»، بتعبير عكاشة، مضيفا: «لم يطرأ عليه أى تغيير إلا حين رجوت من المشير عامر أن يزور قبر الجندى المجهول ليضع باقة زهور حسب الأصول المرعية، لأن ذلك سيكون له أثر طيب بين الأوساط الفرنسية، فاستجاب لهذا الرجاء»، ويضيف: «كان يوم 18 أكتوبر يوما مشهودا حين ألقى ديجول خلال الحفل الذى أقامه تكريما للمشير عامر بقصر الإليزيه كلمة أثارت دهشة وفد مصر، بل ودهشة المسؤولين الفرنسيين أنفسهم.. أبدى شعورا حارا استثنائيا تجاهنا، وهو المعروف بأنه يزن كل كلمة ينطق بها إذ راح يكيل المديح لـ«مصر الحديثة» ولرئيسها عبدالناصر، فقال: «لقد أثبتت مصر، ولازالت تثبت أنها تريد أن تعيش وتعمل فى إطار متحرر وفقا لعبقريتها الخاصة، وهاهى على الرغم من العقبات التى تضعها الطبيعة فى طرقها، والتخلف الطويل الذى خضعت له والتزايد السريع فى عدد سكانها، تبذل الجهود البناءة وتحقق تقدما رائعا فى ميادين عديدة»، وأضاف مشيدا بـ«المهمة الكبرى التى حددتها الجمهورية العربية المتحدة لنفسها فى الشرق الأوسط، والعالم العربى وتحققها تبعا لفن الحقائق»، ثم توج كلمته بتحية سياسة الرئيس جمال عبدالناصر الرشيدة الحازمة قائلا: «إن فرنسا الجديدة التى تشيدها الجمهورية الخامسة، تجد نفسها على استعداد كبير للقيام بعمل مشترك مع مصر الحديثة التى تحققها الجمهورية العربية المتحدة».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة