على الرغم من أن التوافق الأمريكى الكورى الشمالى جاء بمباركة كوريا الجنوبية، والتى كانت بمثابة الطرف الذى انغمس مباشرة فى المفاوضات، منذ البداية، إلا أن الموقف ربما شهد اختلافا جذريا فى الآونة الأخيرة، حيث بدت الولايات المتحدة أقل قدرة فى السيطرة على تحركات حلفائها فى المنطقة، خاصة فيما يتعلق بمسألة كوريا الشمالية، فى انعكاس صريح لحالة الانقسام التى تعانيه إدارة ترامب مع الحلفاء ليس فقط فى آسيا ولكن فى كل مناطق العالم.
ولعل الخطوات التى تتخذها كل من كوريا الجنوبية واليابان لتحقيق التقارب مع بيونج يانج مؤخرا، تمثل صداعا فى رأس إدارة ترامب، والتى تقوم دبلوماسيتها على فلسفة الضغط على الخصوم، من أجل الحصول على أكبر قدر من التنازلات من جانبهم، فى الوقت الذى يسعى فيه حلفاء واشنطن على تقديم التنازلات لنظام كيم جونج أون مقابل السلام، وهو ما يبدو واضحا فى الاتفاقات التى وقعتها سول مؤخرا مع بيونج يانج لربط الطرق بين البلدين، وكذلك تخفيف الوجود العسكرى على الحدود، بينما يسعى رئيس وزراء اليابان للقاء زعيم كوريا الشمالية منذ شهور، دون رد، على خلفية النزاع بين البلدين حول قضية المختطفين.
انتصارات دبلوماسية.. بيونج يانج توظف حلفاء واشنطن لتحقيق أهدافها
خطوات التقارب الأسيوية تجاه بيونج يانج من شأنها تحقيق الهدف الذى سعى له نظام كوريا الشمالية منذ بداية المفاوضات مع الولايات المتحدة، وهو الانفتاح على العالم، وهو ما يمثل إزعاجا لإدارة ترامب، والتى تسعى لمواصلة الضغوط عبر الاستمرار فى فرض العقوبات على النظام المارق، حتى يتخذ إجراءات جادة من شأنها نزع السلاح النووى، والوفاء بالالتزامات التى تم التوافق عليها خلال قمة سنغافورة التاريخية، التى جمعت بين الرئيس ترامب ونظيره الكورى الشمالى لأول مرة منذ عقود طويلة من الزمن.
وفى الواقع، فإن نظام كوريا الشمالية يحقق انتصارات دبلوماسية كبيرة بفضل سياساته التى مارسها خلال الأشهر الماضية، فنجح فى توظيف كوريا الجنوبية لتكون بمثابة صوتها إلى العالم، وهو ما بدا واضحا فى تصريحات بل وزيارات مسؤولى سول إلى مختلف مناطق العالم، فجاء الإعلان عن تطلع بيونج يانج لاستقبال بابا الفاتيكان من العاصمة الكورية الجنوبية، بينما كان الترويج للملف الكورى الشمالى فى عواصم العالم أولوية قصوى على أجندة الرئيس الكورى الجنوبى فى مختلف زياراته وأخرهم إلى فرنسا بالأمس.
تفكيك الهيمنة.. الحلفاء يغردون خارج السرب الأمريكى
وهنا يتضاءل الاحتياج الكورى الشمالى للولايات المتحدة، وهو ما يمنحها مساحة أكبر من المناورة فى إطار المفاوضات الحالية، كما يعطيها القدرة على الاستقلال بقراراتها المتعلقة بمواقفها الدولية تجاه مختلف قضايا العالم، وهو الأمر الذى يبدو واضحا فى الاتصالات الدبلوماسية التى تقوم بها بيونج يانج، وحرصها على توطيد علاقتها مع حلفائها الأصليين الذين يمثلون فى الوقت نفسه خصوما للولايات المتحدة، وعلى رأسهم الصين التى حرص كيم على زيارتها بعد قمته مع ترامب مباشرة، وإيران، والتى قام بزيارتها وزير الخارجية الكورى الشمالى منذ عدة أسابيع، بالإضافة إلى روسيا التى قامت بدعوة زعيم كوريا الشمالية رسميا لزيارة موسكو.
ولم يتوقف النجاح الكبير الذى حققته كوريا الشمالية على مجرد الحفاظ على استقلاليتها، وإنما يمتد إلى تفكيك الهيمنة الأمريكية بمناطق نفوذها فى آسيا، عبر إضعاف التحالف الأمريكى مع كلا من كوريا الجنوبية واليابان من خلال جرهما بعيدا عن السرب الأمريكى، وهو ما يساهم بصورة كبيرة فى تقوية شوكة القوى دولية الأخرى التى يمكنها مزاحمة النفوذ الأمريكى بالمنطقة، وعلى رأسها الصين وروسيا، خاصة وأن التباعد بين أمريكا وحلفائها إثر الموقف من كوريا الشمالية ساهم فى تقاربهم مع منافسيها، وهو ما يبدو واضحا فى زيادة التنسيق بين سول وطوكيو من جانب مع كل من روسيا والصين من جانب آخر.
توتر العلاقات.. سول وطوكيو يرفعان شعار "البادئ أظلم"
ربما كانت السياسات التى تتبناها كلا من سول وطوكيو، والتى تتخذ مدارا بعيدا عن الفلك الأمريكى، هى بمثابة انعكاس لتوتر العلاقات بين واشنطن وحلفائها، جراء الخطوات الأحادية الجانب التى اتخذها الرئيس الأمريكى تجاه بيونج يانج خلال قمة سنغافورة، حيث أنه قدم وعودا لزعيم كوريا الشمالية بوقف المناورات المشتركة مع جارته الجنوبية، فى خطوة أثارت مخاوف كبيرة حول احتمالات قيام الولايات المتحدة بسحب قواتها المتمركزة فى آسيا، وهو ما يمثل تهديدا مباشرا لأمن حلفاء أمريكا التاريخيين، كما أنه تجاهل كذلك الحديث عن قضية المخطوفين اليابانيين فى كوريا الشمالية فى لقائه مع كيم.
ولعل السياسات الأمريكية تجاه كوريا الشمالية ليست السبب الوحيد وراء حالة الجفاء التى تشهدها العلاقات بين أمريكا وحلفائها فى آسيا، ولكنها تمتد إلى مجمل السياسات الأمريكية تجاه الحلفاء فى مختلف مناطق العالم، على خلفية المواقف التى تبناها ترامب منذ بداية حقبته سواء فيما يتعلق بالقضايا التجارية أو حتى السياسية تجاه حلفاءه، ولعل أبرزها القرار بفرض تعريفات جمركية على الواردات القادمة من الدول الحليفة، وكذلك التجاهل الأمريكى لحلفاءه فى أوروبا إبان انسحابه من الاتفاقية النووية الإيرانية فى مايو الماضى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة