لو كان لى أن أضع «مانشيت» عريضا لأسباب انهيار الشخصية المصرية الآن لاخترت كلمة «الاسترخاص» لتكون هى العنوان الرئيسى لكل ما نمر به من أزمات.
هناك شىء فى داخلنا الآن يتجه بنا نحو كل ما هو «أرخص» وللأسف، لا يبيع البائعون هذا «الرخيص» رخيصا، وإنما يبيعونه كما لو كان غاليا فعلا، وتلك هى الأزمة، أنك تحصل على خدمات متدنية بأسعار عالية، ولأنك لا تجد هذه الخدمة فى كثير من الأحيان إلا من عند مصدر واحد أو مصادر متشابهة، فتضطر إلى الاستجابة، فعلى ما يبدو، فإن هناك اتفاقا ضمنيا بين أطياف الشعب المختلفة على هذا الأمر، فالكل يبيع «الرخيص» بسعر «عالى» والكل يشتكى من سوء الحال وانعدام الضمير.
سأضرب لك مثالا على هذه الحالة المنتشرة من «الرخص» بقنوات الأطفال الفضائية، وللأسف، كانت مصر سباقة فى الاهتمام بالطفل المصرى، ومن أجله صنع أكبر الملحنين وأشهرهم أهم أغنيات الأطفال التى شدت بها أهم الأصوات، كما كان للطفل المصرى العديد من الإصدارات والمجلات الثقافية المختلفة، ومن خلال هذه الإصدارات كان الطفل يعرف ما لا يعرف، ويقرأ ويتسلى، وحينما دخلت مصر عصر «الفضائيات» كانت قناة النيل للأسرة والطفل من أوائل القنوات العربية التى تعتنى بالأطفال، وتنتج لهم المسلسلات والبرامج، لكن للأسف فى غيبة من الزمن انحدر كل شىء.
انظر الآن إلى قنوات الأطفال لتدرك حجم «الاسترخاص» الذى نعيش فى ظله، فالآن هناك الكثير من القنوات المصرية المخصصة للطفل، لكنها آية فى «الاسترخاص» قنوات تسرق ما أنتجه الغير، وتحشو به ساعات البث دون أدنى شعور بالحرج أو تأنيب الضمير، قنوات تقوم بعمل مونتاج لأغنيات قديمة وتعرضها وكأنها من إنتاجها الخاص، قنوات تذيع الأغنيات القديمة كما هى وكأنها حق لها، استديوهات فقيرة مظلمة، وبرامج لا يتم إعدادها بالشكل المناسب، وأشك إن كان هناك إعداد أصلا، وفى النهاية المحصلة «ملل» وفقر وهروب.
على الجانب الآخر، هناك العديد من القنوات «الشامية» التى تجتهد فى صنع مادة خاصة بها حتى لو كانت هذه المادة فقيرة أو مباشرة لكنها تتطور يوما بعد يوم، وهناك قنوات خليجية تشترى حقوق بث أهم المسلسلات والبرامج التى يعشقها الأطفال وتصير ضمن نسيج حياتهم، كما تصنع العديد من الشخصيات الكرتونية «الخليجية» التى يتعلق بها الأطفال ويقلدونها، بعض هذه القنوات «فردية» يقوم عليها «أفراد» وبعضها «رسمية» تمولها حكومات، لكن للأسف الحال عندنا شديد الاختلاف، فالدولة لم تضع حتى الآن قنوات الأطفال فى حسابها برغم أهميتها «الاستراتيجية» ودورها فى «بناء الإنسان» والأفراد «يسترخصون» ويريدون الاستحواذ على أكبر قدر ممكن من الأموال مقابل أقل قدر من المجهود وأقل حجم من الإنفاق، والنتيجة هى أن أطفالنا لم يصبحوا «أطفالنا»، وأصبح البيت المصرى يتكلم تارة بالخليجى وتارة بالشامى، وتارة بالإنجليزى، ولا أدرى إلى متى سيظل هذا الغياب حاضرا.