بمناسبة رحيل عدد من الإعلاميين والمثقفين خلال الشهور والسنوات الأخيرة، وأثناء التقليب فى التراث الإذاعى والتليفزيونى المصرى، نعثر على عدد وافر من البرامج والحوارات والوثائقيات، التى تمثل بالفعل خارطة للاجتهاد والمهنية والتفانى والإخلاص. وكل هذا فى زمن لم تكن ظهرت فيه الملايين ولا كانت الإمكانات البسيطة عائقا أمام تقديم حلقات واعمال تمتلئ بالثقافة والإبداع، وربما ونحن نفكر فى تطوير الإعلام علينا أن ننظر لهذه التجارب، بدلا من تعليق الفشل فى شماعات التكنولوجيا.
الراحلة نادية صالح، اشتهرت ببرنامجها زيارة لمكتبة فلان يحتفظ لها الأرشيف الصوتى بحلقان مهمة ورائعة مع عمالقة كبار يمكن أن تجد حلقتين لنجيب محفوظ ومثلهما لصلاح جاهين ويحيى حقى ومحمد الموجى والشيخ محمد حسن الباقورى، وتجد متعة وأنت تستمع لآراء وثقافات وحتى ضحكات، نادية صالح تظهر فى أسئلتها لا تقاطع ولا تتدخل بسماجة مثلما نرى من كثيرين اليوم، ولا يوجد الكثير من الادعاءات أو الذاتية ولكن ثقافة وسلاسة والكثير من التواضع والاحترام والتدفق.
لم تكن نادية صالح وحدها، بل كان هناك عشرات البرامج التى تختلف فى الشكل والمضمون، وتتضمن كثيرا من الدراما الثقافية، والأخذ والرد، لمذيعين كانوا على قدر من الثقافة والتحضير والجدية وخفة الدم، وكان الضيوف يصنعون نجومية هؤلاء، وأيضا فإن الإذاعة صنعت نجومية هؤلاء الكبار أو ساهمت فيها، قبل أن يظهر التليفزيون. هناك برامج لعمر بطيشة وطارق حبيب وأمينة صبرى وغيرهم.
ونتذكر هذه البرامج الإذاعية ليس من قبيل الحنين للماضى، لكن من قبيل الحديث عن الحاضر والمستقبل، لنقول إن ماسبيرو كان عملاقا إعلاميا، قدم الكثير من المواد التى تمثل تراثا مهما للأسف لا يجيد أحد تسويقه، ولاتزال برامج الإذاعة والتليفزيون تمثل كنزا لم يكتشف كله.
ويكفى متابعة ماسبيرو زمان لنعرف كيف يمثل هذا التراث نسبة مشاهدة أعلى من كثير من بضاعة اليوم، فى برهان على أن المحتوى الجيد المخدوم يظل صالحا، وهنا نحن لا نطلب استنساخ هذه البرامج، لكن من المهم لمن يخطط لهذا الجهاز اليوم أن يكون على دراية بما كان فى هذه المساحات الممتدة للإعلام، حيث نرى أن برنامجا واحدا للراحل حمدى قنديل كان الأكثر مشاهدة من برامج كثيرة، وأن ما قدمته نادية صالح أو قدمه طارق حبيب فى وثائقيات وبرامج حوارية متعددة وغيرهم من كبار مذيعى الإذاعة مازالوا يمثلون تجارب تستحق الدراسة.
حتى لا نظل ندور فى دوائر مغلقة. وكان يمكن للثورة التقنية أن تساعد فى تقدم جهاز الإعلام وتخرجه من كبوته لولا أنه اعتمد طوال سنوات على الواسطة والمحسوبية وتوارث الوظائف، وتوقف عن استقبال الموهوبين وفتح المجال للأكثر كفاءة وليس الأكثر نفوذا، واليوم يقف على مفترق طرق، تجرى عليه كل التجارب، إلا أن تتعامل مع الإمكانات والكفاءات وليس مع الشلل والتكتلات.
طبعا نعلم أن الزمن تغير وأن الإعلام مشكلاته معقدة، لكنها لاتستعصى على الحل، بشرط ألا يظن أحد أنه يخترع الإعلام فهو عالم موجود من سنوات ويستمر لكن ربما كانت هناك حاجة للاعتراف بأن الأمر لا يتعلق بالإمكانات المادية فقط مع أهميتها، لكنه يتعلق بالعقول التى تروج لبضائع فاسدة تحت زعم أن المشاهد عايز كده بينما المشاهد يعطى ظهره لكل هذا، لدينا برامج قريبة جدا نجحت ولاتزال تمثل عنصر جذب مهما، ونسبة مشاهدة أكثر من بضائع أتلفها الهوى وأضاعتها المحسوبية والشللية. إنها رسائل الغائبين الحاضرين للإعلام حيا وميتا، لم يكن هؤلاء الكبار يخطبون أو يرفعون أصواتهم وحناجرهم، ومع هذا كانوا يقدمون رسالة ثقافة ووعى من دون طنطنة أو خطابة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة