" طلع البدر علينا ومن النور ارتوينا.. إنك لا تهدى الأحبة والله يهدى من يشاء.. وا جريحاه"..
بالتأكيد جميعنا استمع واستمتع بهذه الروائع من أغانى فيلم الشيماء، بل وحفظها الكثيرون حتى الشباب والصغار الذين اعتادت آذانهم على أغانى المهرجانات، وكثيرون أيضا ينتظرون الفيلم خصيصا للاستمتاع بهذه الروائع التى تحمل أرواحنا لترفرف إلى السماء، وترقق المشاعر فتفيض العيون دمعا والأرواح شوقا إلى حبيببنا المصطفى فى ذكرى مولده أو هجرته.
ساهمت أغانى فيلم الشيماء بشكل كبير فى نجاحه الهائل، ورغم الاختلاف حول مضمون القصة ومدى موافقتها ومطابقتها للواقع والأحداث التاريخية والدينية، إلا أنه كان هناك إجماع على أن أغانى هذا الفيلم من أروع وأبدع الأغانى الدينية التى امتزج فيها جمال الكلمات وروعة الألحان وملائكية الصوت، وكأنها كانت تملى من السماء على مؤلفها وملحنها لتقترن بصوت من أجمل أصوات الأرض يصطحب من يسمعه إلى السماء.
ربما لا يعرف الكثيرون مؤلف وملحن أجمل الروائع التى تغنت بها سعاد محمد فى هذا الفيلم، وربما أفلتت المطربة الكبيرة التى حازت لقب شادية العرب بعد هذا الفيلم من جزء كبير من هذا الظلم الذى لحق بالمؤلف عبد الفتاح مصطفى والملحن عبدالعظيم محمد، برغم الظلم الذى عانته سعاد محمد خلال مشوارها الفنى الذى لم تنل فيه المكانة والتكريم اللائقين بكونها من أجمل الأصوات النسائية، بل ساهم هذا الفيلم فى رفع بعض الظلم عنها وبقاء صوتها راسخا فى أذهان الصغار والكبار.
جمع العباقرة الثلاثة " عبد الفتاح مصطفى وعبد العظيم محمد وسعاد محمد" صفات مشتركة لعلها كانت سببا رئيسيا فى نجاح ما قدموه معا فى هذا الفيلم، فثلاثتهم يتمتع بصفات الصوفى الذى تربطه علاقة خاصة بالسماء وترتقى روحه حتى يقترب من صفات الملائكة، كما يجمعهم قلة الحظ بسبب عدم تسليط الضوء الكافى على روائعهم وعدم نيل المكانة التى يستحقونها رغم مواهبهم الفريدة وإمكانياتهم الهائلة، ورغم أن من هم أقل منهم كان لهم حظ أوفر من الزخم الإعلامى، ولكن الثلاثة لم يجيدوا التعامل مع الإعلام والأضواء والشللية واكتفوا بالعمل والإبداع فى صمت.
عبدالفتاح مصطفى
لا نبالغ إن قلنا إن الشاعر عبد الفتاح مصطفى المولود عام 1924 يقترب بالفعل من صفات الملائكة، يكفى أن تختبر ذاكرتك لتتذكر أكثر الأغانى الدينية الراسخة فى ذهنك لتكتشف أنه هو الذى كتبها " مولاي انى ببابك"، وغيرها من روائع الشيخ سيد النقشبندى الذى أنشد عشرات الابتهالات التى أبدعها عبد الفتاح مصطفى المستحق عن جدارة لقب شاعر الحب والصوفية، فلا ينافسه أحد فى الأشعار الدينية، ومنها أغانى المسلسل الدينى الشهير " محمد رسول الله " ، وأجمل الأدعية التى غناها العندليب فى سلسلة " سبحانك " التى غناها فى رمضان ، ومنها " أنا من تراب" ، كما كتب العديد من الأغانى الدينية والعاطفية لأم كلثوم.
ولا تقتصر إبداعات عبدالفتاح مصطفى على الأعمال الدينية بل له العديد من الروائع العاطفية التى يرددها الجميع دون أن يعرف اسم مبدعها الذى تغنى عباقرة الطرب بكلماته بداية من أم كلثوم : «لسة فاكر، ليلى ونهاري، وأقولك إيه عن الشوق»، وليلى مراد: «راح الهوى»، وكارم محمود: «يا حلو نادى لى»، ومحمد قنديل: «سحب رمشه»، ومحمد فوزي: «عوام، وتملي في قلبي يا حبيبي» ، ومحمد عبدالمطلب:«وردك يا جار الهوى فتح على عوده».
وتعددت مواهبه ولم تقتصر على كتابة الأغانى والاشعار بل كتب سيناريو وحوار أعظم الأعمال الدينية ومنها سيناريو وحوار "مسلسل محمد رسول الله" الذى حصل على جائزة أحسن سيناريو ، إضافة إلى تأليف تتر وأغانى المسلسل ، وإبداعاته فى أغانى فيلم الشيماء، ومنها وا جريحاه لحن محمد الموجى، وحسبه الله معه لحن بليغ حمدى، وباقى أغانى الفيلم التى لحنها عبد العظيم محمد، كما كتب كلمات أغانى فيلم فجر الإسلام ومنها " إلى رحاب يثرب" ، فضلا عن عشرات الأعمال الإذاعية ومنها (عوف الأصيل - مرزوق - الشاطر حسن - شمس الأصيل- عذراء الربيع).
كان الشاعر عبدالفتاح مصطفى مرهف الحس قلبه متعلق دائما بحب الله وهو ما يبدو واضحا من أشعاره ، و وصفه الموسيقار محمد الموجى بأنه رجل صالح، وقال عنه الشاعر سيد حجاب إنه كان لديه مشروع شعرى متكامل وأشعاره ليست رص كلام كالباقين، ولم يكتب عبد الفتاح مصطفى ما يندم عليه، وفى نهاية حياته تفرغ للعبادة والتضرع إلى الله.
وبلغت قمة إبداع الشاعر الصوفى عبد الفتاح مصطفى فى فيلم الشيماء عندما أراد أن يعبر عن موقف "بجاد" فى آخر الفيلم ، فلم يجد أحسن ولا أجمل من كلام الله الذى اقتبس منه المعنى الذى يجسد هذه اللحظة ، ففعل ما لا يستطيع غيره أن يفعله ، حيث كتب خمس شطرات تعبر عن المعنى المقصود باحترافية شديدة، " كم ناشد المختار ربه ..فى هدى انسان أحبه ..لكن وحى الله جاء.. إنك لا تهدى الأحبة.. والله يهدى من يشاء".. وتوفى عبدالفتاح مصطفى فى يوليو عام 1984.
عبدالعظيم محمد
تستحوذ ألحان الموسيقار العبقرى عبدالعظيم محمد على جزء كبير من وجداننا وذاكرتنا حتى وإن لم يعرف الكثيرين اسم صانعها، فمن منا لم يستمتع ويحفظ رائعة محمد رشدى " ياليلة ماجانى الغالى "، وعشرات الروائع التى غناها محمد قنديل الذى لحن له عبد العظيم محمد ما يقرب من 100 أغنية، ومنها " ماشى كلامك على عينى" ، كما غنى من ألحانه عبد الحليم حافظ أغنية الفنارة ، ومحرّم فؤاد "زي ما اكون عطشان"، وفايزة أحمد "دوبني دوب"، ونجاح سلام "بالسلامة يا حبيبي بالسلامة"، وشريفة فاضل "والله لسه بدري يا شهر الصيام" ، التى كتب كلماتها الشاعر عبد الفتاح مصطفى، فضلا عن عشرات الأدعية الدينية فى رمضان ، وتترات وأغانى المسلسلات ، ووصل عدد ألحانه إلى أكثر من ١٠٠٠ لحن .
وفى حوار صحفى قالت ابنته إيمان عبدالعظيم محمد إن والدها المولود فى محافظة المنيا عام 1923 أسند له تلحين أغنيتين فى فيلم الشيماء وهما "يا محمد" و"طلع البدر علينا" ، ولكن عندما قام بتسجيلهما ، واستمع إليهما صانعو الفيلم تقرر أن يسند إليه لحن بداية الفيلم ونهايته “إنك لا تهدي الأحبة”، و"أشرقت شمس الهدى" بدلاً من بليغ حمدي ومحمد الموجي.
استطاع الملحن العبقرى عبد العظيم محمد استغلال إمكانيات صوت المطربة سعاد محمد ، فأبدعت إبداعا غير مسبوق فى غناء أغانى الفيلم ، وفى حوار معنا أشارت إيمان بيبرس ابنة الفنانة سعاد محمد إلى أن الملحن عبد العظيم محمد كان يراهن المايسترو على أن والدتها تستطيع الوصول إلى أعلى طبقة من طبقات الكمنجة فى عبارة "ياقرة العين يا محمد" ، وظلت عازفة الكمنجة "أليس عبدالملك" ترفع طبقات الكمنجة وهى تعزف وفى كل مرة يتفوق صوت سعاد محمد ، ولذلك سميت قيثارة السماء و شادية العرب بعد فيلم الشيماء.
ورغم امكانيات وعبقرية وروائع عبد العظيم محمد إلا أنه لم ينل حظه من الشهرة والتكريم ووصفته ابنته بأن حظه قليل، وكان لا يحب الظهور كثيراً في اللقاءات التلفزيونية و الصحفية.وأضافت أن والدها كان منذ صغره ملتزما دينيا حتى أواخر أيامه التى تفرغ خلالها تفرغا كلياً للعبادة والصلاة والصوم وقراءة القرآن، وهو نفس ما فعله صديقه الشاعر عبدالفتاح مصطفى فى نهاية حياته.
سعاد محمد
لا تتسع الصفحات والكلمات لتعبر عن عظمة صوت سعاد محمد الذى وصف بأنه أجمل الأصوات النسائية رغم أنها لم تنل حظها فى التكريم والشهرة والمكانة التى تستحقها من تمتلك كل هذه الإمكانيات، وهو الصوت الذى ساهم فى النجاح الكبير لفيلم الشيماء وخلود أغانيه.
تتشابه صفات سعاد محمد مع صفات ملحن ومؤلف أغانى الفيلم فى التصوف وملائكية المشاعر والأداء ، وهو ما جعلها تتوحد مع كلمات الأغانى وتعيشها ، فبكت وهى تغنى وا جريحاه وتحشرج صوتها من شدة التأثر، كما أشارت ابنتها إيمان ، ورغم ذلك رفض الملحن أن يحذف هذا البكاء والحشرجة فى المونتاج وهو ما ساهم فى صدق المشاعر ونجاح وجمال الأغنية.
وعرض المخرج حسام الدين مصطفى أغانى الفيلم على الفنانة سعاد محمد ، كما يشير ابنها حماد فتوح، وسجلت الأغانى فى أكاديمية الفنون، حيث تم عمل بروفات كثيرة مع الفنانة سميرة أحمد لإتقان الالقاء وكانت سعاد محمد تحفظها الأغانى وتشرح لها المقامات.
يؤكد أبناء سعاد محمد أنه رغم مئات الأغانى التى غنتها والدتهم إلا أنها تصل إلى قمة روعتها وجمال صوتها عندما تتغنى بالأشعار والأغانى الدينية، وأهمها أغانيها فى فيلم الشيماء الذى كانت تعيش أثنائه حالة خاصة من الصوفية والعشق الإلهى، ويتحسرون على أغانى فيلمها الذى لم ير النور ولا توجد نسخ منه وهو فيلم "شهيدة العشق الإلهى" ، الذى قامت فيه بأداء مجموعة من أروع الأغانى الدينية التى لم يسمعها الجمهور حتى الآن وكان الفيلم يحكى قصة رابعة العدوية ويقوم ببطولته رشدى باظة وعايدة هلال.
وأخيرا سلام على هؤلاء المبدعين المنسيين الذين جعلونا نحلق فى السماء حبا وشوقا لرسولنا الكريم ، وجعلوا أبناءنا يحفظون الشعر فى زمن المهرجانات، وحافظوا على تلك المشاعر الطاهرة النقية المتجددة مع كل كلمة وغنوة ولحن نسجته عبقريتهم ، فسلام على أرواحهم الطاهرة فى هذا اليوم الطاهر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة