أعمدة الدخان سيطرت على المشهد فى العاصمة الفرنسية باريس مع تأجج الاحتجاجات التى دعا إليها النشطاء، احتجاجا على خطط الإصلاح التى تبناها الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، ربما لتسطر مشهدا جديدا يبدو غريبا على ما اعتدنا بتسميته "دول العالم الأول"، والتى طالما اتخذت دور المعلم عن كيفية التعامل مع المتظاهرين واحترام حقوقهم فى التعبير عن الرأى، إلا أنها فى الوقت نفسه ربما جاءت لتنذر ببداية حقبة جديدة، ربما تهيمن عليها الفوضى فى المرحلة المقبلة، خاصة إذا ما استمرت حالة الاستقطاب التى تشهدها المجتمعات الأوروبية بشكل عام.
ولعل صعوبة الفصل بين المشهد الداخلى فى فرنسا من جانب، والمشهد الأوروبى بشكل عام من جانب أخر، تعزز بصورة كبيرة طبيعة المرحلة المقبلة فى أوروبا التى تشدقت لعقود طويلة بوحدتها، فى ظل وجود الاتحاد الأوروبى، خاصة مع بزوغ نجم التيارات اليمينية المتشددة، والتى لا تتورع فى استغلال الأحداث الراهنة لتحقيق أكبر قدر من المكاسب السياسية، ومن ثم الوصول إلى السلطة، والهيمنة فى النهاية على دول القارة العجوز، استغلالا لحالة الزخم التى تتمتع به فى المرحلة الراهنة، جراء نجاح عدة أحزاب يمينية من إحكام قبضتها على عدد من الدول الأوروبية، وعلى رأسها إيطاليا، بالإضافة إلى حالة التمرد المجتمعى على السلطات الليبرالية الحاكمة فى عدة دول أخرى جراء سياساتهم التى كانت السبب الرئيسى وراء التراجع الاقتصادى وتنامى الإرهاب.
وهنا يثور التساؤل حول ما إذا كانت القارة العجوز فى مواجهة ما يمكننا تسميته بـ"الربيع الأوروبى"، خاصة وأن أوجه الشبة بين الأوضاع الراهنة فى أوروبا من جانب، وما شهدته منطقتنا فى السنوات الماضية من جانب آخر، تبدو كثيرة ومتشابكة إلى حد كبير، فالمجتمعات ثائرة، والأوضاع الاقتصادية متراجعة، بينما تبقى التيارات المتشددة فى حالة تحفز واضح لاقتناص السلطة.
إلا أن الأوضاع فى أوروبا تبدو أكثر تعقيدا إذا ما قورنت بالوضع فى منطقتنا، خاصة وأن حالة الانقسام لا تقتصر على مجرد الأوضاع داخل دول القارة، وإنما تمتد إلى المستوى القارى، فى ظل ما يواجهه الاتحاد الأوروبى من تحديات كبيرة تفرضها اللحظة الراهنة، بسبب صعود اليمينيين من أصحاب النزعة القومية، والذين يرفضون البقاء تحت مظلة الاتحاد الأوروبى، والذين يرونه بمثابة تحدى صارخ لسيادة دولهم فيما يتعلق بالسياسات التى تتبناها من الناحية الاقتصادية، بالإضافة إلى مواقفهم من العديد من القضايا الدولية، بالإضافة إلى إقدام بعض الدول على اتخاذ خطوة الخروج الفعلى من الاتحاد الأوروبى، وعلى رأسها بريطانيا، والتى لم يعد أمامها سوى شهور معدودة للخروج من الكيان المشترك ربما لتضع اللبنة الأولى فى انهياره.
وتمثل حالة الضعف التى يعانيها الاتحاد الأوروبى فى المرحلة الراهنة تحديا آخر لدول القارة، خاصة وأنها سوف تساهم فى تقويض، أو على الأقل تقليص، قدرته على التدخل لحماية الدول الأعضاء مما يواجهونه من تحديات، خاصة فى المجال الاقتصادى، وبالتالى تصبح الحلول الوسط بعيدة عن التطبيق العملى، فإما أن تتخذ الحكومات إجراءات اقتصادية صعبة تتحملها الشعوب من أجل تحقيق الإصلاح، أو الاستمرار على السياسات القديمة وبالتالى مواصلة التراجع.
ولم تقتصر التداعيات المترتبة على الانهيار المحتمل للاتحاد الأوروبى أو ضعفه على مجرد تقليص قدراته فى خدمة أعضائه واحتواء مشكلاتهم الداخلية، بينما سوف تمتد إلى حالة قد تصل إلى الصراع بين دول القارة، فى ظل إحياء صراعات قديمة، اعتقد البعض أنها قد اندملت بفضل حالة الاتحاد بين دول القارة، وعلى رأسها الخلافات الحدودية، وهو ما يبدو واضحا فى الموقف الإسبانى من مسألة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى، ورفضها أى اتفاق فى هذا الشأن دون إصلاح النص المتعلق بجزيرة جبل طارق.
يبدو أن القارة العجوز فى طريقها نحو تحديات صعبة، قد تؤدى إلى حالة من الفوضى فى مستقبلها بالمرحلة المقبلة، قد تصل إلى تغيير خريطتها فى المستقبل القريب، وبالتالى تبقى الكرة فى ملعب الشعوب، فإما أن تتجه لدعم القرارات الحكومية التى تبدو صعبة، من أجل مستقبل أفضل، أو مواصلة طريق ضبابى، ربما يكون من الصعب التنبؤ بنهايته.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة