من رحمة الله تعالى بعباده، أنه يقبل توبة مَن اعترف بخطئه وأناب عن معصية اقترفها مهما كان حجم الذنب الذى وقع فيه العاصى، ومن رحمته أيضًا أنه جعل خطأ المجتهد صوابًا، حيث يؤجر عليه فاعله، ولا يكون الأجر على الخطأ الحقيقى، فيتبين عندئذ أن الخطأ فى الاجتهاد يختلف عن الخطأ فى ارتكاب المعاصى.
وإنما كان خطأ المجتهد بعيدًا عن دائرة العقاب، لقول النبى، صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فأجر واحد»، وإنما لم يأثم المجتهد إن أخطأ فى اجتهاده، لأنه لم يتعمد الخطأ، بل كان حريصًا على إصابة الحكم الصحيح فى المسألة، وهو الذى يتوافق مع حكم الله فيها، لكنه لما كان غير قادر على معرفة ما فى علم الله فى المسألة لتوقفه على الوحى الذى انقطع بموت النبى الخاتم لم يأثم المجتهد إن أخطأ فى اجتهاده، وكان اجتهاده مقبولًا من المكلف حتى لو تعددت الآراء التى توصل إليها المجتهدون.
ولعلم المجتهدين بوجوب بذل الوسع والالتزام بضوابط الاجتهاد، فإنهم يعاودون النظر مرارًا بعد توصلهم لحكمٍ ما فى المسألة المنظورة، فإن ظهر لهم حكم آخر فى المسألة لا يترددون عن القول به والرجوع إليه، ولذا تجد فى بطون كتب الفقه أكثر من قول للفقيه الواحد فى المسألة الواحدة، وذلك لتغير العُرف مثلًا، أو غير ذلك من أسباب تغير الفتوى التى يعرفها العلماء.
وكل ما سبق لا يكون إلا فى المسائل الاجتهادية التى لم تُحسم بنص قطعى فى دلالته، سواء خلت هذه المسائل الاجتهادية عن نص يتناول حكمها، أو تناولها نص ظنى فى دلالته حتى لو كان آية فى كتاب الله عز وجل، فمن المعلوم لدارسى علوم القرآن والفقه والأصول أن آيات القرآن الكريم منها ما هو ظنى فى دلالته، ومن هذه الآيات آية الوضوء التى قال الله فيها: «وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ»؛ فقد اختلفت كلمة الفقهاء فى المراد منها بين مسح كامل الرأس وبعضه، وذلك بناء على معنى «الباء» واستخدامها اللغوى من حيث زيادتها وعملها.
أما النوع الثانى من آيات الأحكام، وهى الآيات قطعية الدلالة، فقد أجمع العلماء سلفًا وخلفًا أنها لا تقبل الاجتهاد، ولا يختلف حكمها باختلاف الزمان أو المكان أو الأشخاص، ومن هذا النوع بالإجماع آيات المواريث، ولذا فإن الخوض فيها ومحاولة الخروج على أحكامها واستبدال أحكام أخرى بها، ليس من الخطأ المعفو عنه ولا الاجتهاد الذى يؤجر صاحبه فيه وإن أخطأ، بل هو آثم لمجرد الإقدام على النظر فى أحكامها، لعلمه أنها لا تحتمل الاجتهاد.
ولما كان مَن أيدوا إقرار أحكام أخرى غير التى جاءت بها آيات المواريث فى إطار ما يسمى بالتسوية بين النساء والرجال فى المواريث، من العالمين بهذه الحقائق، كان المنتظر وقوفهم مع أنفسهم وقفة متأنية وتصويب ما وضعوا أنفسهم فيه، لكن يبدو أنهم متمسكون برأيهم الباطل هذا، بدليل التبرير المتواصل الذى لا يقنع أحدًا سواء من المتخصصين أو غير المتخصصين، فضلًا عن اتهامهم جماهير العلماء بالوصاية الدينية، والكهنوتية، والجمود الفكرى، ورفض التجديد، وغير ذلك من اتهامات معلبة!
وتلك التبريرات التى يسوقها القائلون بهذا الرأى لا تحتاج جهدًا لتفنيدها، ناهيكم بتناقضها واضطرابها، وتغيرها بين عشية وضحاها، وافتقادها للمنهجية والأصول العلمية، فمن مبررات القائلين بالمساواة بين الرجل والمرأة فى المواريث: أن المواريث حق وليست واجبة كالصلاة والصيام وغيرهما من الفرائض، والحقوق يجوز التنازل عنها. والقول بجواز التنازل عن الحقوق صحيح لا جدال فيه، لكن القول بأن المواريث ليست واجبة كالصلاة وغيرها من أركان الإسلام، هو من أكبر المغالطات التى ظهرت ربما فى تاريخ التشريع الإسلامى كله، وهو قول يخالف الثابت بكتاب الله، حيث يقول رب العالمين فى الآية التى يحاولون تغيير ما ورد فيها من أحكام: «يوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ»، ثم يقول فى نهاية الآية نفسها: «فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا»، فهذا نص قرآنى محكم لا يحتمل الاجتهاد بإجماع علماء المسلمين، وهو صريح فى أن التقسيم المذكور فى الآية هو فريضة افترضها الله عز وجل لا تقبل التعديل، ولذا قال المفسرون لها: «وقوله: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ}، أى من هذا الذى ذكرناه من تفصيل الميراث، وإعطاء بعض الورثة أكثر من بعض، هو فرض من الله حكمَ به وقضاه، والله عليم حكيم الذى يضع الأشياء فى محالِّها، ويعطى كلًّا ما يستحقه بحسَبه، ولهذا قال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}»، فالميراث حق وواجب فى آن واحد، ولا تناقض فى ذلك، فكل حق يقابله واجب؛ فالديون مثلًا حقوق للدائنين، وهى واجبة الأداء بالنسبة للمدينين؛ لقول الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ»، ثم قال فى الآية نفسها: «فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ»، فالأمر بأداء الدين هنا للوجوب.
وإذا افترضنا جدلًا أن الميراث حق وليس واجبًا، فهذا لا يجيز التسوية بين البنت وأخيها بقانون، لأن المتصرف فى الحقوق هم أصحاب الحقوق وليس غيرهم حتى لو كان صاحب المال نفسه، لأن المال لا يكون تركة إلا بموت صاحبه، ولا يكون ميراثًا إلا بعد إخراج الحقوق التى منها تجهيز الميت ودفنه، وقضاء ديونه، وإنفاذ وصاياه فى حدود الثلث، فهذه الحقوق مقدمة على حق الورثة، أما حقوق الورثة فقد قسمها رب العالمين فى كتابه وفصَّلها تفصيلًا لم يرد مثله فى أى أمر من أمور الدين الأخرى حتى أركان الإسلام نفسها، وذلك لعلم ربنا سبحانه أزلًا شهوة المال على النفس وحبها الشديد له، مما يدفعها للبخل به ومحاولة حجبه عن مستحقيه.
ومع التسليم بأنه يحق لصاحب النصيب فى الميراث أن يتنازل عنه عند القسمة لبعض الورثة أو جميعهم، شأنه فى ذلك شأن الدائن الذى يجوز له أن يسقط دينه كله أو بعضه عن المدين، لكن الأمر هنا مختلف، فإلزام الابن بترك جزء من نصيبه لأخته قبل أن يستحق نصيبه ويتسلمه خطأ كبير، لأن التنازل عن الحق لا يكون إلا بعد ثبوته واستقراره لصاحبه، ومعلوم أن النصيب الموروث يستحق بعد وفاة صاحب المال لا قبلها، وحتى لو صح التنازل عن الحق فى الميراث قبل موت المورِّث، فإنه لم يقل أحد إن مَن استحق شيئًا يجوز للغير إجباره على ترك بعض ما استحقه من دون رضاه، لقول النبى، صلى الله عليه وسلم: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ».
ومن ثم، فإن القول بجواز إصدار قانون يسوِّى بين البنت وأخيها اعتمادًا على رضا الذكور بالتسوية يكذبه العقل والواقع، فهل جمع أصحاب هذا الرأى جميع ذكران العالمين أو دولة من الدول، مَن هو موجود منهم ومَن سيولد إلى يوم الدين، وعرفوا منهم أنهم يوافقون على تسويتهم فى الميراث مع أخواتهم، ومن أجل ذلك سنوا قانونًا أو أصدروا قرارًا بالتسوية؟! وعلى فرض حصول هذا المستحيل وترتب آثاره شرعًا وقانونًا، فهل ضمن مَن يصدرون قانونًا بذلك بقاء هؤلاء الذكور على موافقتهم حتى استحقاقهم المال بعد وفاة آبائهم؟!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة